Atwasat

المقاهي وتكون النخب

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 14 أغسطس 2016, 09:53 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تميزت ممارسات معمر القذافي السياسية في الداخل، من ضمن ما تميزت به، بجانبين مهمين: الجانب الأول، ضرب المؤسسات الحديثة (مؤسسة الجامعة، المؤسسة العسكرية، مؤسسة القضاء) وتقوية مؤسسة القبيلة. الجانب الثاني، ضرب النخب. والسطور التالية تتناول الجانب الأخير.

فعلاوة على منع الأحزاب وتقييد العمل النقابي وتدجينه، تمت محاصرة وإزعاج أي تجمع منظم يمكن أن يسهم، على نحو مباشر أو عرضي، في تشكيل النخب. فتم التضييق على الأندية الرياضية والفرق المسرحية وتم التشدد، القريب من المنع، في منح تراخيص لإشهار جمعيات النشاط العام.

بل إن العنت طال حتى المقاهي!، التي لا تدخل، بطبيعتها، ضمن إطار الجمعيات والعمل الجماعي المنظم ومؤسسات المجتمع المدني، وإنما هي واقعة في مجال التجارة وضمن سياق السوق.

مع حلول الألفية الثانية وخفوت سُعار السلطة تجاه الثقافة ومطاردة المثقفين أخذت جلسات المثقفين في المقاهي تكتسي طابع النقاشات الآمنة

واتخذ النظام موقفا حذرا، وحتى معاديا، إزاء المقاهي لأنه من المعروف أن المقاهي والحانات ارتبطت، عبر العالم، بالحراك الثقافي والسياسي الساري في المجتمع. ففي كل مدينة، تقريبا، تشتهر مقهى أو حانة، أو أكثر، بكونها ملتقى لجماعات من المثقفين والأدباء والكتاب والفنانين والسياسيين. عديد المدارس والتيارات والجماعات الأدبية، أو الفنية، والفكرية نشأت وتبلورت عبر النقاشات والتفاعلات الثقافية في جلسات المقاهي والحانات.

وفي ليبيا لم يكن الأمر استثناء. فعُرفت بعض المقاهي (وحتى الحانات في فترة ما) في بعض المدن بكونها مكانا مفضلا لهذه الفئة من الناس.

ومعمر القذافي، إضافة إلى ذهنيته البدوية النافرة من المظاهر المدينية، لمس عبر تجربته الشخصية في السنوات التي كان يعد فيها للانقلاب ويستطلع توزع القوى السياسية المدنية في المجتمع (حيث كان يلتقي بعضهم في المقاهي) هذا البعد الذي يمكن أن تلعبه المقاهي (بما أن الحانات منعت)، فشن عليها حملة، بما في ذلك عبر الأغاني، منذ السنوات الأولى التالية لانقلاب 1969، ثم تطور الأمر إلى منع الجلوس بالمقاهي من خلال حظر استخدام الكراسي والمناضد، وتحويلها إلى مجرد "مشارب" (كآبار السبيل) يتناول الشخص فيها، إذا عطش، مشروبه وهو واقف، ثم يذهب إلى حال سبيله، سالكا سبيل حاله!. بعد ذلك أخذت المقاهي تعود، تدريجيا، إلى طبيعتها من حيث هي مكان للجلوس والالتقاء وتقضية الوقت، مع نهاية الثمانينيات.

مع حلول الألفية الثانية وخفوت سُعار السلطة تجاه الثقافة ومطاردة المثقفين أخذت جلسات المثقفين في المقاهي تكتسي طابع النقاشات الآمنة، إلى حد كبير، وتكونت ما يشبه الجماعات الثقافية أو الأدبية التي تتخذ من مقهى ما مكانا لجلساتها.