Atwasat

عسكر تركيا العسكر سوسة

نورالدين خليفة النمر الإثنين 01 أغسطس 2016, 11:27 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الليبيون المضّيعون من الدكتاتورية العسكرية الوطنية! مدة أربعة عقود، يتابعون اليوم تداعيات الانقلاب العسكري المخفق في تركيا 07.15.. 2016 مترقبينها أن تساهم في كبح السياسة الإسلاموية الديماغوجية بما يسمّى بـ"العثمانية المجدّدة "عشوائيا المنتهجة من قبل حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب الطيب آردوغان بانحشارها منذ عام 2014 طرفا مؤججا للنزاع الليبي الأهلي المستفحل والدامي.

الضباط الأتراك وجنودهم المهانون والمنكّل بهم أمام شاشات الفضائيات؛ وتقريبا الموُصوفون عبر ماكنة الدعاية (الأرادوغانية) المنقلبة على انقلابهم بوصف التعيّيبْ اللهجي الليبي بـ"لعسكرسوسة" أي الزُعْر من مَردة الجُنْد المطبوعين بالزعَارة أي شراسة الخُلق، وصفاقة الطَبْع بالتعدّي على المشروعيات واستباحة الأرزاق و الحُرمات.

رغم حجم القوة المشاركة في المحاولة الفاشلة التي بلغ عددها- حسب تقرير لوكالة رويترز- 8651 عسكريا و استخدامها لـ 35 طائرة بينها 24 مقاتلة،و 37 مروحية،إضافة إلى 37 دبابة و246 مركبة مدرعة وثلاث سفن. إلا أنّها لم تمكّن الانقلابيين من الإمساك بمقاليد أمور الدولة فيما نجح سابقوهم و فشلوا في الآن نفسه كما في كل انقلاباتهم السابقة بالتحوّل من عسكريين محترفين إلى سياسيين موهوبين.

نجح الانقلاب العسكري الأول بقيادة الجنرال جمال غورسيل يشاركه 38 جنرالا عام 1960 في خلع حكومة عدنان مندريس المدنية ، التي رفدها "الحزب الديمقراطي" المنشق عن "الحزب الجمهوري" الأتاتوركي بالحصول على الأغلبية في انتخابات عام 1950. هذاالفوز الكاسح لم يمنع الجيش المتربص من الوثوب على إصلاحات مندريس التي وُصفت بالمنقلبة على الإجراءات العلمانية التي قطع بها المؤسس الرمزي للدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك وخليفته عصمت إينونو تركيا عن موروثها الإسلامي العثماني. حصيلة الانقلاب الدموي كانت صادمة فقدحصدت رأس عدنان مندريس، وحكمت على الرئيس جلال بايار بالسجن مدى الحياة.

بحنّكة الملك إدريس وحدوسه المستبصرة بترتيبات السياسات الدولية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية ودرايته بمكانة تركيا في الترتيبات الأطلسية-الأمريكية وبتوجيه منه يشرع عام 1954رئيس الحكومة الليبية وقت ذاك مصطفى بن حليم في العاصمة أنقرة بإدارة مباحثاث ليبية مع حكومة عدنان مندريس تكفل توسط تركيا ودعمها الموقف الليبي في المباحثات الليبية-الأميريكية بشأن تأجير قاعدة (هويلس) العسكرية، وقد أرفقت المباحثات باتفاق جرى على ضوئه تحويل وجهة جزء من البعثة العسكرية الليبية بعد التحول الثوري المصري عام 1952من مصر إلى تركيا. وفي عام1957 توّجت العلاقات الثنائية بزيارة مندريس إلى ليبيا، التي تكللت بالمساعدة في تطوير الجيش الليبي بإهدائه ست دبّابات، وأسلحة ومدافع، مُرر جزءٌ منها بعلم مندريس للمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

في هذه الورقة من"ورقاته المطوية" من تاريخ ليبيا السياسي المهمل، يُسهم رجل دولة الاستقلال المخضرم مصطفى بن حليم في تقديم شخصية رئيس الحكومة التركي المغدور به بانقلاب العسكر عدنان مندريس وأدائه السياسي بتجاوز الصورتين: الصورة الذهنية العربية/الإسلامية المنبثة مشرقيا لتؤرب تركيا وعلمانيتها، وانخراطها في أحلاف حقبة مابعد الاستعمار والموظّفة للتأجيج القومي، من قبل الرديكاليات العربية الممثلة في (مصر الناصرية)، والصورة التركية المقابلة المنبثة تقليديا لخيانة العرب التاريخية للدولة العثمانية وانحيازهم للمشروع الأوروبي لتفتيتها، وبعد ذلك تشويش الراديكاليات العربية على سياسات والتزامات تركيا الدولية. وهو ما فنّده بن حليم بتأكيد الوفاء الذي عبّر عنه الليبيون للخلافة العثمانية، ودفعوا تكلفته الباهظة بمواقف زعماء جهادهم ضد الاستعمار الغربي ممثلين في الشرق بالسنوسي أحمد الشريف وفي الغرب بالباروني، والسويحلي من زعماء الجمهورية الطرابلسية.

لواء الجيش جودت صوناي، يتخلى عن منصبه رئيسا للأركان في جمهورية غورسيل ليصبح عضوا في مجلس الشيوخ، وفي عام 1966 ينتخبه البرلمان خلفًا لسلفه، رئيسا للجمهورية حتى عام1973. في عام 1968 نصطف نحن تلاميذ الصف السادس الابتدائي أمام مدرستنا لتحية موكبه يشّق شوارع طرابلس ضيفا على المملكة الليبية مرفوقا بالأمير الحسن الرضا، ورئيس الحكومة الليبرالي عبد الحميد البكوش الذي أطرّ رمزية زيارة رئيس دولة تركيا مستثمرا بعدها الجيوسياسي المؤثر في الاستراتيجيات الأوروبية /الغربية لدعمّ توجهات حكومته في إعادة ترتيب سياسات متوازنة بين القوى الدولية المؤثرة في ليبيا الملكية مدعومة بالوفرة النفطية التي طرأت عليها لبرمجة معالم وضعية مؤثرة في المحيط المغاربي بترسيخ وبلورة مؤسسة توّحده، وفي الفضاء الأوروبي الشمالـ-متوسطي بدعم استقلالها السياسي الذي عبرّت عنه زيارة البكوش اللافتة لفرنسا الديغولية عام 1968، والعمق الجنوبي الأفريقي بزيارة الرئيس التشادي تومبل باي لليبيا في العام ذاته. الترتيب بتوجهاته الكبرى الثلاثة يأتي انقلاب الزُعران أو "العسكرسوسة" من صغار ضباط الجيش الليبي عام 1969 ليفسده بضربة واحدة عمياء، فيدفع البكوش ورمزيته الوطنية الثمن باهظاً سجنا وتنكيلاً والقضاء كُلياً على مشروعه ببناء الآيديولوجية الوطنية المؤسسة للدولة الديمقراطية المدنية الواعدة بوراثة العهد القادمة لأميرها الشاب الحسن الرضا.

العلاقة "الـعسكرسوسية" المدشنّة بين عسكر تركياو ليبيا منذ عام 69 حتى 1989 والمحفوفة مضامينها بالغرابة، وتناقضات التسييس غير المسؤول من الجانب الليبي وبرجماتية السياسات المنافعية، من الجانب التركي، تلقي الأضواء عليها أطروحة الباحث نبيل المظفّري الصادرة عن دار غيداء بالأردن عام2009 بعنوان :" العلاقات الليبية التركية1969 ـ 1989 دراسة سياسية اقتصادية "، وهي دراسة تعكس معطياتها الشائكة،و بحثيتها المرتبكة،ارتباك السياسات المُدارة مباشرة في ليبيا من نظام عسكري قاده، ورسم سياسته الفوضوية دكتاتور غير محسوب التصرّفات، غريب الأطوار، متناقض المواقف مُريبها وفي تركيا بواسطة سياسيين برجماتيين هيمنت على آداءات حكوماتهم وتوجهاتهم السياسية المؤسسة العسكرية التركية من "انقلاب المضبطة" عام1971 الذي كرّس قادته حكومة نهاد إريم الفاشلة حتى الانقلاب العسكري الذي كان الأعنف والأكثر دموية في تاريخ تركيا المعاصر الذي قاده عام 1980 الجنرال كنعان إيفرين، متوليا فيما بعد رئاسة الجمهورية (1982 ــ 1989) التي ترأس حكومتها سياسيون كسليمان ديميريل، وتورغوت أوزال 1983 ــ 1989.

ضرر السياسات المتناقضة على سمعة الدولة الليبية، المتّبعة من قبل النظام الدكتاتوري السابق في تسيير علاقاته السياسية والاقتصادية مع الدولة التركية يرصدها بدون تعمّد كتاب نبيل المظفّري في عدة محاور أبرزها : إقحام النظام الليبي نفسه ترتيبا لحسابات ليبية- أمريكية طرفا ثم وسيطا مربكا في النزاع التركي-اليوناني الغربي 74 ـ 1976 على جزيرة قبرص، وأيضا التلاعب بالقضايا القومية التركية الجارحة كقضية أتراك بلغاريا 73- 1989 والقضية االكردية وجرحها المفتوح الدائم واستخدامهما ورقة ابتزاز لمواقف سياسية تركية تدعم موقفه وحساباته إزاء الغرب وأمريكا، عدا بناءه مدة ثلاثة عقود وأزيد لمنظومة الابتزاز والفساد الاقتصادي والمالي عبر رؤوس الأموال والشركات التركية التي تجني تبعاتها ليبيا اليوم، فيما ينتهجه في أزمتها الانقسامية حزب العدالة والتنمية الإسلامي من سياسات عقيمة، وضّارة.

السياسات الموّرثة من المؤسسة العسكرية لإسلامييها الأتراك من (نجم الدين أربكان حتى رجب الطيّب أردوغان، هي التي مهدّت للانتهازية العشوائية التي نلحظها في مواقف حزب العدالة والتنمية وزعيمه الديماغوجي من الأزمة الليبية بدءا بانتهاج مبدأ "عدم إنتاج ردّ فعل" في التعاطي مع حدث الثورة الليبية عام 2011 ، والذي فسّره المراقبون بما يمكن تسميته ببراغماتية الوجهين: وجه الموازنة بين حسابات الرّبح والخسارة بناءا على المصالح الاقتصادية القومية بوصول مستوى التّبادل التجاري مع ليبيا عام 2010 إلى 9,8 مليار دولار. ووجه تعزيز العلاقات السياسية مع النظام الدكتاتوري السابق التي توّجت بدعوة رئيس الوزراء التركي رجب الطيّب أردوغان كضيف مشارك في القمّة العربية في العاصمة المُصطنعة سرت! 2010، واستثمار رمزية حضوره للترويج للبروبقاندا القذافية الغاربة فيما سمّي بالتوجه الثلاثي الأبعاد (العربي، الأفريقي، الإسلامي). الذي كان ثمنه المدفوع ليبيا وأفريقيا إفساح دور اقتصادي وتجاري لتركيا عبر النفوذ الليبي في أفريقيا.

انتصرت الثورة الليبية بدعم عسكري من دول حلف الناتو فتغيّرت السياسات التركية 180 درجة في الصراع الليبي فيما نراه منذ عام2014 وحتى يومنا هذا من ديماغوجيات وعشوائيات نتمنى من تداعيات الانقلاب المخفق كبحها وإيقافها، بل إفشالها.