Atwasat

رجب الهنيد

سالم العوكلي الأحد 31 يوليو 2016, 10:54 صباحا
سالم العوكلي

الفتى الأسمر، من قضى طفولته وصباه وشبابه في منطقة ذيل الوادي بدرنة، حيث ملاذه ومأوى ذاكرته التي من هناك تبدأ وتنتشر في مدن ليبيا كلها، فأينما وليت وجهك في هذا الوطن تجد من يسألك عن رجب الهنيد بمجرد أن يعرف أنك من درنة. ذيل الوادي ملاذه حين يحن إلى الطفولة والصبا، أو حين يتضرر بيته الحالي بشظايا طائشة لحرب عاش كل حياته داعيا للتسامح من أجل تجنبها.

سُجن إبان العهد الملكي في قضية القوميين العرب حين كان الحلم العربي يكبر مع ناصر وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ومع وجد الشارع العربي الذي بدأ يتلمس ملامح هويته بعد قرون من الاحتلال العثماني والغربي، وسجن إبان نظام القذافي السابق لأنه رفض خروج جامعة طرابلس؛ التي يرأس اتحاد طلابها، في مظاهرة تأييد لخطاب زوارة الذي أرسى أول قواعد الدولة الشمولية في قُطر مازال يتخلص من الأوبئة والأمية، ومازال في بدابة ابتهاجه بكنزه الأسود الذي اعتقد أنه سيعوضه عن قرون من الجوع والفاقة وفقر الدم.

قتل ثورجيو سبتمبر شقيقه الأصغر بريك، وقتل ثورجيو فبراير زوجته فريحة البركاوي، عضوة المؤتمر الوطني السابق التي رفضت استلام مبلغ ثمن السيارة لأنها كانت تملك سيارتها الخاصة، ولأنها لم تأت إلى أعلى سلطة تشريعية منتخبة بعد فبراير من أجل أن تشارك في حفلة الغنائم، وقدمت استقالتها دون مواربة حين انحرف هذا المؤتمر الوطني عن مساره وغاياته التي انتخب من أجلها.

رجب الهنيد، المثقف، صاحب صاحبه، المتسامح، السخي، المسالم كملاك، العاشق للوطن، دفع الثمن في كل مراحل ليبيا، دفعه دون أن يغضب أو يشتم أو يلعن، وكأنه يدفع دينا مستحقا عليه لهذا الوطن.

عمل بداية الستينيات موظفا في بنك باركلز، ولم يكن أمام هذا الشاب الفقير إلا أن يقدم استقالته من وظيفة تحصل عليها بصعوبة بعد حرب 1967 خجلا من عمله في مصرف إنجليزي ساهمت دولته في الإطاحة بالحلم العربي وحلمه الشخصي، كان حين يتحدث عن سجنه إبان الملكية كأنه يتحدث عن رحلة أو زردة، ورغم أن القضية سياسية حساسة، إلا أن دولة القانون الناشئة، وتلك المسحة الملكية الرقيقة، لم تتخل عن شباب الوطن حتى وهم تحت طائلة العقاب، فنقل مع رفاقه إلى سجن درنة، وقضى معظم وقت العقوبة في المستشفى القديم حيث توطدت علاقته مع الممرضات الراهبات، وحيث كان أصدقاؤه يأتونه يوميا ويسهرون معه. كان الانخراط في حزب فترتها خرقا للقانون، وهو أحد المآخذ على النظام الملكي، لكن هذا الخرق يتم التعامل معه بالقانون، وعندما جاء النظام الانقلابي الذي تشكل قانون عقوباته من الهتافات ومن شطحات القذافي في خطاباته، أصبح الانتساب إلى حزبٍ خيانة، والخيانة عقوبتها الإعدام، وفي أفضل الأحوال سجن مؤبد. ورغم أن رجب الهنيد لم يكن هذه المرة منخرطا في حزب لكنه نقابي باتحاد الطلاب حرص على استقلالية الجامعة، ورفض تأييد خطاب إقصائي سيحيل البلاد فيما بعد إلى مذبحة شاملة للنخب وغير النخب، سُجِن كتدشين للثورة الثقافية التي أعلن عنها في النقاط الخمس تحت شعار تطهير البلاد من المرضى، وهذه المرة عرف مرارة السجن في ظل نظام ثورجي حين يكون مكانا لتصفية الحساب وللتنكيل بالكائن البشري، وقضى هذه المرة 15عاما ممنوعا من الهواء والدواء والكتاب والزيارة، يتنقل من سجن سيء إلى سجن أسوأ، وفي دهاليز ذلك الحبس الوحشي كان الرفاق يتحدثون عن إنسانيته وحنانه، ويصفونه بالأم العطوف، للدرجة التي يمر فيها، آخر الليل، على السجناء النائمين كي يغطي من انكشف الغطاء عنه في زمهرير هذه الصحراء.

وظل رجب الهنيد، مثل عبدالعزيز الغرابلي، الشخصية التي لا يختلف اثنان عن حبها، والرجل الذي مذ عرفته لم أعرف له أعداءً. لديه القدرة على التعامل الراقي مع كل النقائض، ولديه الطاقة على امتصاص الصدمات والتحديق دائما في نصف الكوب المملوء. لم يزايد بمأساته، ولم يَعرض تاريخه النضالي للمزاد، بعد فبراير، مثلما فعل بعض المناضلين أو أشباههم، ورغم ما تعرض له من ألم حقيقي عبر سنوات السجن والتعذيب، إلا أنه كان الداعية الدائم للتسامح، مثله مثل أغلب سجناء الرأي، وكان من أشد المعارضين لقانون العزل السياسي، الذي أكثر من تحمس له هم من كانوا يتسكعون في مدن العالم من فندق إلى فندق، أو من كانوا يستفيدون من هبات النظام طيلة الوقت في الهواء الطلق، وكأنهم يتطهرون عبر الحماس لهذا القانون مما علق بهم من تلوث، أو يدرجون أنفسهم بزيف في قائمة ضحايا النظام السابق.

رجب الهنيد الذي يعيش الآن حالة الكفاف على مرتب ضماني مازال يلاحق كل ما يُكتب عن أو في ليبيا، مازال هو فتى ذيل الوادي العاشق لهذا الوطن القاسي عليه، لم يتغير قيد أنملة عن مبادئه، ولم يكن قادرا منذ أن قدم استقالته إلى مصرف باركليز محتجا إلا على ممارسة مهنة واحدة وهي التسامح.

ذيل الوادي هو مصب وادي درنة الشهير الذي يجمع المياه من هضاب الجبل الأخضر الممتدة على مساحة 100 كيلو متر ويصبها في هذا الشاطئ، حيث كان الطفل رجب الهنيد يلعب بما تخلى عنه السيل من غنائم قرب الشاطئ، أو يجمع أعواد الحطب المتراكم على ضفاف المصب أمام بيته البسيط، وكان الوادي حطاب درنة في زمن كان الحطب بترول البلاد. يذكر جيدا ذلك الفيضان الشهير الذي حدث في الأول من أكتوبر عام 1959 حين غضب الوادي وفاض على الضفاف وحمل معه أمتعة البيوت القريبة وبعض الجثث الطافحة، وكان رجب الهنيد المتعلق بهذا الحي حتى الآن الشاهدَ الحيَ على كل فيضان عم الأرض التي يحب، مُربِّي الأمل العظيم في أشد الظروف قسوة مر بها، يدرك أن ما يحدث في ليبيا يشبه فيضان الوادي الغاضب، سيرمي على الضفاف بكل الأوساخ التي علقت به، وسينظف نفسه من كل ما يعكره وهو يحث خطاه تباعا. كان لا يكف عن تغذيتنا بالأمل لأنه يدرك أن هذه الأرض ولّادة.