Atwasat

الأجر العادل ومعدل البطالة

أحمد أبولسين السبت 09 يوليو 2016, 03:04 مساء
أحمد أبولسين

تعد نظرية الأجر الحديدي التي نصت على أن الأجر العادل للعامل يجب أن يتعادل مع الحد الأدنى الضروري للحياة من أول النظريات الاقتصادية التي ناقشت كيفية تحديد الأجر العادل للفرد العامل، ظهرت بعد هذه النظرية العديد من النظريات أهمها نظرية إنتاجية العمل، والنظرية الاجتماعية للأجور، والنظرية الماركسية، وصولاً إلى نظرية آلية السوق الحرة التي أوكلت مهمة تحديد الأجر كغيرة من الأسعار إلى قوى العرض والطلب بسوق العمل.

فوفقًا لنظرية اقتصاد السوق، يلعب الأجر المتوقع من العمل الدور الرئيس في تحديد الأجر التوازني، وهو ما يتضمن أن ارتفاع الأجر الحقيقي يعد دافعا قويا لدى الأفراد لزيادة عرض العمل، وفي المقابل يعتبر عنصر العمل أحد أهم عناصر الإنتاج، وعليه فإن المنشأة تسعى دائما لتخفيض تكاليف استخدام هذا العنصر عن طريق تخفيض الأجر وهو ما يعني وجود علاقة عكسية بين الطلب على العمل والأجر الحقيقي. وبتساوي العرض والطلب تتحدد الكمية المطلوبة من العمل ومستوى الأجر الحقيقي.

وبالرغم من منطقية تحليل هذه النظرية إلا أن التجارب التطبيقية أثبتت أن آلية الأسعار (الأجور) لا تحقق التوازن في سوق العمل، نظرا لتضارب مصالح أرباب العمل والعمال، وعليه كان لا بد من وجود إدارة اقتصادية تتدخل لسد هذا الخلل عن طريق سن بعض التشريعات التي تسمح أن يوفر الأجر للعامل الذي يتقاضاه ولأسرته حياة كريمة، خصوصا العمالة غير الماهرة أو شبه الماهرة (مبدأ التدخل، أو الاقتصاد الموجه الذي سادت أفكاره بعد الحرب العالمية الأولى)، ومن هنا جاء قانون الحد الأدنى للأجور.

يعتقد البعض أن السبب الرئيس لارتفاع معدل البطالة يعود إلى عدم مواءمة مخرجات التعليم والتدريب لمتطلبات سوق العمل، ومن ثم فإن الحل المناسب لمشكلة البطالة حسب آرائهم يكمن في إعادة التأهيل والتدريب وإحداث تغيرات هيكلية في نظم التعليم والتدريب، خصوصا فيما يتعلق بالمناهج الدراسية وطرق التعليم، بينما يرى البعض الآخر أن سبب مشكلة البطالة يكمن في عزوف القطاع الخاص عن تشغيل الأيدي العاملة المحلية، ومن ثم يعتقدون أن الحل يكمن في سن قوانين تلزم منشآت القطاع الخاص بتوظيف العنصر المحلي، في حين ذهب آخرون إلى أن الخلل الرئيس الذي أدى إلى تفاقم مشكلة البطالة في العديد من الدول النامية يعود إلى تدني مستوى متوسط الأجور السائد في سوق العمل.

ومع أننا لا نستبعد مساهمة العوامل سالفة الذكر بشكل نهائي في تدني مستوى التشغيل إلا أننا لا نعتقد أن أي منها يمكن أن يكون السبب الرئيسي في تفاقم مشكلة البطالة لاعتبارات عدة في مقدمتها أن ظروف سوق العمل هي الموجه لمخرجات التعليم والتدريب وليس العكس ومن ثم فإن الخلل يكمن في تباطؤ تكييف ظروف أسواق العمل بما يسمح باستيعاب القدرات والكفاءات عند حدود الإنتاج المثلى، إضافة لمحدودية السعة التشغيلية لقطاع الإنتاج غير السلعي Non-Tradable Sector الذي يستوعب النسبة الأكبر من الناشطين اقتصاديا من عدد السكان مقابل الضعف الشديد في مرونة الجهاز الإنتاجي وعدم قدرته على التوسع في ظل السياسات الاقتصادية الراهنة.

أما فيما يتعلق بدور القطاع الخاص، فلا يخفى على أحد أنه في مجمله قطاع غير منتج يطغى عليه الطابع التجاري غير الرسمي المتطفل على الريع النفطي، ومن ثم فإن قدرته على استيعاب نسبة من فائض عرض العمل تظل محدودة وستسهم في خفض قدرته الاستيعابية تلك وبدرجة أكبر أي سياسة تتعلق بتحديد مستوى الحد الأدنى للأجور. إذ من المتوقع أن يؤدي نظام الحد الأدنى للأجور في المدى القصير إلى زيادة معدل البطالة، وارتفاع المستوى العام للأسعار (تضخم)، ذلك لأن زيادة الأجور ستدفع بالمؤسسات إلى الاستغناء عن بعض العاملين للتقليل من إجمالي تكاليف الأجور، مما يؤدي إلى زيادة معدل البطالة، كما أن زيادة الأجر المدفوع للعامل تعني زيادة في تكلفة المنتج الذي تقوم المنشأة بإنتاجه، وهو ما سينعكس مباشرة على الأسعار النهائية لتلك المنتجات، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن الزيادة في الأجور ودخول شريحة من العاطلين لسوق العمل، تؤدي إلى إحداث زيادة في الاستهلاك الخاص، مما يولد ضغوطا تضخمية خصوصا عند حدوث فائض في الطلب في سوق السلع والخدمات.

هذا بصورة عامة، أما فيما يتعلق بالاقتصاد الليبي الذي يتسم باستيعاب القطاع العام للنسبة الأعظم من قوة العمل واعتماد القطاع الخاص على العمالة الوافدة بصورة أساسية، فإننا نعتقد أن سياسة زيادة الأجور في القطاع العام لن تسهم في حل مشكلة البطالة بقدر ما ستسهم في تزايد أهمية بند الأجور في الإنفاق العام، وهو ما سيؤدي إلى آثار سلبية على المدى الطويل تتمثل في:
1 - تحمل الدولة بالتزامات أبدية في الإنفاق على المرتبات لا يمكن التخلص منها لاحقاً إلا من خلال اللجوء إلى تخفيض الرواتب، وهو أمر لن يكون مقبولا أو ممكنا، فضلا عن آثاره السياسية الخطرة.
2 - تعميق الفجوة في مستويات الأجور بين القطاعين العام والخاص لمصلحة العاملين في القطاع العام، الأمر الذي سيسهم في هجرة اليد العاملة من القطاع الخاص نحو القطاع العام للاستفادة من الأجور الأعلى، وهو ما سيجهض خطط رفع درجة استيعاب القطاع الخاص للعمالة الوطنية وبالتالي استمرار ارتفاع معدل البطالة.
3 - ارتفاع التزامات الدولة نحو سداد العجز الذي سيترتب على ارتفاع المعاشات التقاعدية نتيجة زيادة الأجور، أو إلى ما يطلق عليه «العجز الاكتواري».

لا يتضمن هذا العرض المناداة بعدم تعديل مستويات الأجور بقدر ما يتضمن أن لا تتم زيادة الأجور بصورة عشوائية، لا تستند إلى أساس اقتصادي، فمن الناحية النظرية يفترض أن تستهدف زيادة المرتبات والأجور إما الزيادة الحادثة في معدل التضخم، بغية المحافظة على القوة الشرائية للدخول، أو أن تصاحب النمو في إنتاجية العاملين، حيث من المفترض اقتصاديا أن تقترن زيادة الإنتاجية بزيادة في تعويضات العاملين وبما يتوافق مع معدلات النمو في الإنتاجية، إلا أنه وبإمعان النظر في معدلات النمو في الأجور ومعدلات التضخم، يلاحظ أن النمو في الأجور كان أعلى من الزيادة في معدل التضخم، كما أنه بالتأكيد لا يتوافق مع النمو في الإنتاجية.

وفي ظل ذلك فإن أي سيناريو مستقبلي لزيادة الأجور لا يحمل سوى نتيجة واحدة وهي استحالة استدامة أوضاع المالية العامة في نطاق آمن في ظل الضغط الذي ستمثله أعباء الأجور على الميزانية العامة مستقبلا، وربما تكون خيارات التعامل مع الضغوط المالية لبند المرتبات والأجور قاسية للغاية في المستقبل، حيث قد تضطر الدولة إلى التركيز على زيادة المرتبات من الناحية الاسمية فقط، أي اللجوء لخفض قيمة العملة ثانية حتى تتمكن من الإيفاء بالتزاماتها نحو جيش العاملين، وهو ما لا نعتقد أنه سيكون سياسة ممكنة في ظل الانخفاض الشديد للقوة الشرائية للدينار.

ضبط الأجور لا يستهدف وقف نموها، بل وضع آلية لزيادتها بما يحافظ على القوة الشرائية لدخول العاملين وأيضًا حماية الميزانية العامة من مخاطر نمو الأجور على عشوائي غير مدروس

ومن هنا يبدو أن الآلية المناسبة لضبط النمو في رواتب العاملين ومن ثم النمو في الإنفاق العام في الوقت الحالي، تتمحور حول تبني ما يطلق عليه في الأدبيات الاقتصادية سياسة ربط الأجور Wage indexation Policy، بمعدل التضخم التي تضمن ثبات القيمة الحقيقية لأجور العاملين وعدم تدهور القوة الشرائية لدخولهم عبر الزمن نتيجة ارتفاع الأسعار.تستند هذه السياسة على آلية واضحة لتحديد مقدار الزيادة التي يمكن إقرارها في الأجور، بحيث تكون تلك الزيادة عادلة بالنسبة للعاملين وغير مغال فيها وغير مكلفة للدولة في الوقت ذاته.

من أهم مزايا هذه السياسة أنها تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والتأكد من عدالة عملية توزيع الدخل، كما تعمل على إجبار السلطات النقدية على الاهتمام بصورة أكبر بعملية صياغة وتنفيذ سياسة نقدية تستهدف الحفاظ على معدل التضخم في حدود مناسبة، أو تبني معدلات مستهدفة للتضخم لا ينجم عنها آثار سالبة على الموازنة العامة.

وبالرغم من تعدد صيغ ربط الأجور بمعدل التضخم من الناحية النظرية، إلا أنه من الناحية العملية جرت العادة على ربط الأجور بمعدل التضخم وفقاً لتعريفات مختلفة لمعدل التضخم ودرجة شمول هذا المعدل للمجموعات السلعية المختلفة؛ حيث تميل معظم الدول إلى ربط الأجور بتطورات معدل التضخم في الفترة الزمنية السابقة للربط «أي بفترات تأخير في الربط»، وليس بمعدل التضخم في الفترة الحالية، غير أن ربط الأجور بمعدلات التضخم في الماضي قد يترتب عليه بعض الآثار غير المرغوبة من قبيل أن عقود التوظيف عادة ما تكون لفترات زمنية طويلة، سنة فأكثر، وبالتالي فإن ارتفاع معدل التضخم الحالي سيحدث آثارا آنية على القوة الشرائية لدخول العاملين، ومن ثم مستويات المعيشة، والتي لن يتم تعديلها إلا في نهاية السنة الحالية أو حينما يتم تجديد العقود.

ولمعالجة ذلك يقترح ربط الأجور بالتضخم على أساس فترات أقل من سنة، وهو نظام أفضل بالنسبة للعاملين لأنه يقلل من التكلفة التي يمكن أن يتحملوها نتيجة ارتفاع معدلات التضخم، كما أنه من الممكن أن يتم الاتفاق على أنه عندما يتجاوز معدل التضخم مستوى محددًا يصار إلى تعديل الأجور بشكل فوري في أي وقت من السنة.

وبصورة عامة يمكن القول إنه أيا كانت الآلية التي سيتم بها الربط، فإن ضبط الأجور لا يستهدف وقف النمو فيها، وإنما وضع آلية واضحة لزيادتها تستهدف الحفاظ على القوة الشرائية لدخول العاملين وفي ذات الوقت حماية الميزانية العامة من مخاطر نمو الأجور والمرتبات على نحو عشوائي غير مدروس وذلك لضمان استدامة المالية العامة للدولة ورفع قدرتها على مواجهة الضغط المالي الذي تمثله مثل هذه الأعباء.