Atwasat

النفط والأيديولوجيا: علاقة سفاح

سالم العوكلي الأحد 12 يونيو 2016, 12:59 مساء
سالم العوكلي

"من المزعج أنه وبعد خمس سنوات من شرارة فبراير، تقف بلادنا على شفا الانهيار الكلي، بعد سلسلة من الانهيارات الجزئية على الصعيد السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي، بل والأخلاقي .." بهذا التقرير للحالة الراهنة للدولة الليبية تبدأ الكاتبة د. فوزية بريون مقالتها المهمة (الجذور التاريخية للمسألة الليبية) المنشورة بالعدد التاسع من مجلة عراجين ـ فبراير 2016م.

وتحيل هذا المصير إلى العوامل الثقافية التي شكلت المجتمع الليبي، ناقدةً التركيز على السياسي فقط في تحليل هذه الأزمة، فتنطلق في هذه الورقة من "فرضية أن أصل أزمتنا البعيد، يعود إلى الثقافة في المقام الأول".

وهي تذهب إلى أن التفكير في أن تنفيذ حزمة من الإصلاحات السياسية متمثلة في مؤسسات بناء الدولة الديمقراطية دون تهيئة المناخ الثقافي لاستيعاب المنجز السياسي سيؤدي إلى نوع من النكوص "دون أن يسبق هذا أو يتزامن معه مراجعة ومعالجة وتنقية منظومتنا الثقافية".

تسلط بريون الضوء على أربعة مفاصل تاريخية مهمة كان لها تأثير مباشر في منظومتنا الثقافية التي أنتجت لنا هذا الواقع المتأزم: الاستبداد الذي عانى منه الليبيون عبر عصور طويلة الذي شكل في مجمله ما تسميه بسيكولوجية "القابلية للاستبداد".

سؤال الهوية، والتباس صورة الذات الجماعية والعوامل التي أدت إلى التشويش على هذا السؤال. القبلية، ومدى تأثير اقتحامها للمجال السياسي في مشروع بناء الدولة، باعتبار الثقافة القبلية مناقضة للثقافة الوطنية.

وأخيراً: غياب النخبة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام عن المشهد وعن المشاركة في البناء، أو بالأحرى تغييبها عبر الإقصاء أو عبر الاحتواء من قبل السلطات المتتابعة.

تحلل الكاتبة هذه المفاصل عبر سياق سردي مشفوعاً بأمثلة مهمة من واقع ما مر به هذا المجتمع عبر عقود طويلة جعلته في النهاية في قلب هذه الفوضى والعجز عن تجاوز الأزمة في مرحلته الانتقالية.

ما حصل بعد فبراير هو استمرار هذه الثنائية (المال والأيديولوجيا) التي كانت وراء إعادة إنتاج آليات النظام السابق

ورغم أهمية ما طرحته إلا أن ثمة عوامل مهمة لا يمكن تجاوزها أسهمت بشكل مباشر في ارتباك مشروع بناء الدولة بعد سقوط النظام، وساعدت في تشكيل البيئة الاجتماعية التي قام في حضنها حراك فبراير وما ترتب عنه فيما بعد.

أولاً سأضرب مثلا نابعا من طبيعة تخصصي العلمي في التربة والمياه. فثمة عوامل تاريخية عريقة تسهم في تكوين التربة وطبيعتها ومواصفاتها الفيزيائية والكيميائية، ويعادل هذا البعد التاريخي البناء الثقافي فيما يخص المجتمع، لكن لا نستطيع أن نتجاهل عوامل استثنائية أو طفرات مهمة قد تحدث في أيام أو ساعات وتغير تماما من تركيب هذه التربة أو من طبيعتها، أو تعجل بآليات انجراف أو تعرية كان من المفترض أن تأخذ زمنا طويلا، مثل الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها، وهي عوامل، قد تدمر أحيانا خصوبة هذه التربة أو قد تسهم في سرعة تحولها إلى بيئة حاضنة للبذور.

وبالتالي فإن التغييرات القوية أو الجذرية السريعة التي يتعرض لها المجتمع تفعل فعلها في بنيته ومدى قابليته لهذا التغيير أو تبدل بنائه الداخلي الذي أسهمت في تكوينه قرون طويلة من الثقافة. ولعل النظام السابق سعى إلى مثل هذه التغييرات السريعة والصناعية في حماسه الثوري، مثلما نضيف أحماضا مركزة للصخور لتتحول إلى تربة في أيام محدودة بدل أن يتم هذا التحول بشكل طبيعي على مدى آلاف السنين.

أشارت الكاتبة إلى عوامل مثل الاستبداد، وسؤال الهوية والقبلية وغياب النخبة، وهي عوامل كانت في ذروتها قبل استقلال ليبيا ومن ثم بناء دولة الاستقلال بسرعة يعتبرها الكثير من المحللين قياسية، دولة قانون دستورية تتميز بأداء خدمي عال وإدارة منظمة إلى حد كبير واهتمام ملحوظ بالتعليم وبالكفاءة، رغم أنها خارجة من فاشية حقيقية ومرحلة استبداد مثلها الاستعمار الإيطالي، ورغم تركيبتها القبلية الحادة في ذلك الوقت، فضلا عن سؤال الهوية الذي استمر ملتبسا للدرجة التي جعله رئيس الوزراء البكوش همه الأساسي، كما ذكرت الكاتبة ـ في آخر سنوات المملكة، فضلا عن فقر النخبة أو غيابها، وليس تغييبها، حيث كان خريجو الجامعة يعدون بالعشرات في تلك الفترة، إلا أن الدولة نهضت وتشكل كيان ليبي لأول مرة في التاريخ ناغمه تطورات مهمة في مشاعر الإحساس بالذات الجمعية ومن ثم الانتماء.

فما الذي جد على المجتمع منذ انقلاب سبتمبر وبعده بفترة قصيرة؟. أستطيع أن أختزل العوامل الجديدة المؤثرة، رغم تعقيدها في عاملين أساسين، وهما الطفرة النفطية، والأيديولوجيا، أو بمعنى آخر الأيديولوجيا المدعومة بثروة نفطية هائلة، واستطاعت هذه الثروة أن تغطي على كل أخطاء هذه الأيديولوجيا الفادحة في جوانبها الإدارية والاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية.

ربما أشارت الكاتبة باقتضاب لهذه الأيديولوجيا في سياقات أخرى لكني اعتبرها عاملا مهما وأساسيا أسهم إلى حد كبير في تشكيل ثقافة بديلة تربى في حضنها الفساد والاتكالية والروح الاستهلاكية والانتهازية والفساد وغيرها من القيم السلبية التي استمرت بعد فبراير، ومن جانب آخر شكل النفط نوعا من الاقتصاد الريعي الذي لا يمكن التفكير في أية إصلاحات ديمقراطية في ظله.

وما حصل بعد فبراير هو استمرار هذه الثنائية (المال والأيديولوجيا) التي كانت وراء إعادة إنتاج آليات النظام السابق في السيطرة وفي إجهاض بناء دولة القانون التي من شأنها أن تسحب البساط من تحت أقدام المستفيدين من هذه الثنائية، فقد دخلت المشهد وبقوة الأيديولوجيا الإسلامية أو ما يسمى بالإسلام السياسي، بل أن مشروع النظام السابق الأممي استبدل بمشروع جماعة الأخوان الأممي، وكان التركيز على هذه الأيديولوجيا على حساب مفاهيم مثل الوطن أو الدولة أو الهوية، وهذه المرة كان مخدوما ليس من قبل النفط (المال) الليبي فقط ولكن من قبل نفط دول الخليج التي استباحت المرحلة الانتقالية الليبية وعبثت بمساراتها عبر ما ضخته من أموال وأسلحة، ونحن نعرف أن هذا النهج كان نفسه طريقة القذافي في العبث باستقرار الكثير من الدول في العالم عبر تدخله بالمال والسلاح، ونجح إلى حد كبير في زعزعة استقرار الكثير من هذه الدول.