Atwasat

ركن العامرية.. الإحصاء والغنوشي..

فدوى بن عامر الثلاثاء 07 يونيو 2016, 02:18 مساء
فدوى بن عامر

يمكِّننا علم الإحصاء من استخلاص ما نرغب من نتائج بتحايل ظريف على الأرقام والرسومات البيانية للمسائل المنظور إليها ولا يعني هذا الإخلال بصحة العمليات الرياضية الموصلة لتلك النتائج. وقد جاء خطاب الغنوشي في المؤتمر العاشر لحركة «النهضة» محبوكًا بطريقة تسمح بذلك، أعني في ما يخص تأويله!

ساعدت ديناميكية «النهضة» ومرونتها على استيعاب الأحداث المتغيرة وهي بذلك أكثر الحركات الإسلامية تطورًا. إلا أن اللافت كان ضبابية الغنوشي حينما أشار لالتزام الحركة بالنقد الدائم لذاتها، أهو إذًا الالتزام بالمنهج العقلاني العلمي بنقد حقيقي للأفكار والأفعال؟ أم أنه نقد ضمن إطار الأيديولوجية الموروثة؟! العشم أن تكون الأولى فهو المفكر الدارس للفلسفة.

من المخيب عدم تطرقه لماهية أخطاء الحركة رغم إيجابية إقراره بها

الجميل أن الحركة كانت ولا زالت تونسية الروح رغم تأثرها بما يحيط بها من تيارات كاليسارية والعلمانية، بالإضافة إلى الإسلامية بمختلف مشاربها، وربما أعطى تأثرها بالأحزاب الدينية الأوربية كالحزب الديمقراطي المسيحي الألماني لقياداتها البراجماتية الضرورية للتفاوض السياسي العقلاني مع الأطراف الأخرى.

هذا لم يمنع أن يكون خطاب الغنوشي مشبوبًا بالمشاعر، فأدمع القلوب على سنوات غربته في الإبريز الباريسي، حيث أوشك على شراء قبر بعد أن كاد اليأس يتمكن منه باستحالة الرجوع للوطن.

لا ندَّعي العلم بالنيات، لكن الحرج ينتاب القلب على اتساعه، عند تناول سير الحركات الإسلامية لاعتبارها وجهًا من أوجه اليقظة المتخلفة لمجتمع مرتكس، لذا فقلمي غالبًا ما يفتقر لحس التعاطف معها. ومع هذا أرى أن الرجل صاحب فكر وليس على غرار كل قيادات الحركات الإسلامية الأخرى.

قد يُفهم من حديثه أنه دعوة لفصل الدين عن السياسة وهذه سابقة تاريخية إن صدق، خصوصًا إذا نظرنا لاحتمالية لفظ الجماعات المطمئنة لجهلها للحركة لاعتقادها أنه بالفعل يدعو لذلك. اللافت أيضًا كان غياب الإخوان المسلمين عن المؤتمر مما قد يعطي مدلولاً إيجابيًّا.

من المخيب عدم تطرقه لماهية أخطاء الحركة رغم إيجابية إقراره بها، فليس من السهل سياسيًّا الاعتراف مثلاً بخطأ مزج الديني بالسياسي والسياسي بالديني.. أو لعله اعترف!

قال: «نحن حزب ديمقراطي وطني مسلم»، فهل الأحزاب الأخرى ليست بذلك؟! وأضاف: «متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام»، قد حمل مصطلح (مرجعية وطنية) بارقة أمل رغم ما جاء بعدها، فقيم الإسلام عليا تدين بها كل الإنسانية، كما أن الاسلام دين عابر للحدود لا وجود فيه لمصطلحات حديثة كالوطنية. كذلك القول إن «قيم الإسلام محركة للتنمية والحث على العمل والبذل والصدق»، فيه مبالغة وإلا لما كانت هناك حضارات صينية وهندية ويابانية وأميركية وأوروبية.

وواصل: «مكرسين بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الوطنين الذين هم (نحن) وبين تيارات التشدد والعنف التي تنسب نفسها ظلمًا وجورًا للإسلام». (نحن) هذه قد أطاحت برأسي فزعًا، فهل يعني أنهم هم وحدهم المسلمون؟! وهل قصد أن المتشددين ليسوا بمسلمين؟! ومَن أعطاه حق تكفيرهم؟!

برزت برجماتية الغنوشي بقوله نحتاج لوزارة كبرى للاقتصاد لتنفيذ خطة عامة

واستطرد: «إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية، وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن الخصومات السياسية، ونستغرب من إصرار البعض على إقصاء الدين عن الحياة العامة»، وهنا يقع خلط، فمن جهة نادى بجرأة مرغوبة بفصل الجامع عن السياسة، ليعود فيقول: «ندخل في الديمقراطية الإسلامية»! أتكون أسلمة كل شيء وأي شيء؟!

بالمقابل قد يكون مقصده بالفعل التحول التدريجي بقوله: «لم نعد ندعو للإسلام السياسي بل إلى الديمقراطية الإسلامية»، التي هي ترجمة حرفية للديمقراطية المسيحية الألمانية، فإن كان ذلك حقيقيًّا فهو إذًا الانقلاب الحقيقي على الإسلام السياسي من داخله والقفزة النوعية التي ننتظرها. فهل تكون تونس السباقة للخروج من العباءة الإسلامية التقليدية إلى عالم السياسة الحقيقي؟ أما الزعم أن هناك تيارًا مؤثرًا لإقصاء الدين عن قلوب المؤمنين فأوقعني في دهشة!

برزت برجماتية الغنوشي بقوله: «نحتاج لوزارة كبرى للاقتصاد لتنفيذ خطة عامة» لإدراكه أن مشكلة تونس الحقيقية في انهيار اقتصادها.

ونادى بالإسلام الوسطي وأن ذلك يحتاج لجيل من العلماء، وأقول، لم ولن يولد (الفقي) الذي بإمكانه تفصيل ما يدعو إليه!

أما «لسنا بطلاب سلطة»، فبالرغم من تنازل «النهضة» عن الحكم عندما كانت أغلبية إلا أني وددتُ أن قال مثلاً «لدينا برنامج اقتصادي كامل ونطالب بالسلطة لنتمكن من تنفيذه». هكذا تُبنى الأمم وإلا فكيف خرجت سنغافورة من مأساتها في ستينات القرن الماضي إن لم يكن هناك مَن طالب بالسلطة؟!

وإلى أن يقترن الفعل بالقول تبقى «النهضة» وقائدها نافذة أمل وسط الليل المدلهم.