Atwasat

أين خسرنا ؟ ولماذا؟ *

سالم العوكلي الأحد 29 مايو 2016, 10:32 صباحا
سالم العوكلي

إبان الانتفاضة التونسية تحدث القذافي ناصحا جيرانه التوانسة بالحفاظ على زين العابدين وانتخابه مدى الحياة، لأنه رجل طيب وهاجم ويكيليكس والفيسبوك بضراوة، بعد هروب زين العابدين تحرك ولي العهد سيف الإسلام بما يتناسب مع المتغير الجديد، والتقى براشد الغنوشي أكثر من مرة في محاولة لتفادي انتقال عدوى الثورة إلى ليبيا عبر عقد صفقة يشكل من خلالها الحكومة الليبية الجديدة من الأخوان، واعتمادا على أن الجواد الرابح في هذا الحراك الجديد سيكون تنظيم جماعة الأخوان الذين كانوا منذ سنوات ينتظرون على عتبات السلطة كملحقين بمنظومة التوريث، وكان سيف الإسلام؛ الذي تأكد حين ذاك من أن راشد وجماعته هم من سيحكمون تونس، يرغب في التناغم مع هذا المتغير الجديد (مثلما تناغم نظام القذافي مع ناصر مصر في بدايته) دون أن يزاح النظام من ليبيا خصوصا بعد سنوات العسل التي قضاها مع جماعة الأخوان الليبية منذ 2004 م.

وفعلا استطاع حزب الغنوشي أن يفوز في أول انتخابات، مثلما فاز حزب العدالة والتنمية بالرئاسة في انتخابات مصر، وكانت دهشة أو صدمة المتتبعين بخسارتهم في ليبيا المستبعدة أمام ما كانوا يسمونه التيار الليبرالي، رغم أنه لا يمت لليبرالية بصلة وهو مجرد تحالف كيانات وطنية صغيرة ميزتها أنها انبثقت من الداخل ومن حلال حراك فبراير نفسه.

لكن كان من الواضح أن هذه الجماعة التي عملت بشكل سري طيلة 80 عاما بين مد وجزر مع الأنظمة الحاكمة، وارتكبت عمليات إجرامية في بداياتها، وانشقت عنها حركات إرهابية إلى أن وصلت إلى ذروتها بداعش، هذه الجماعة غير قادرة على تسيير وإدارة دولة وطنية، واستطاع الغنوشي أن يتلافى هذا العجز بحنكة عبر تراجعه إلى الخلف، وتحاشيه لسياسة الإقصاء التي اتسمت بها الجماعة القطبية في مصر ودفعت ثمنها غاليا، لأن فكرة الإسلام السياسي أو أي دين سياسي تتناقض كليا مع تاريخ وثقافة وحضارة وبنية المجتمع المصري، ولأن الإسلام بمجرد أن دخل مصر تعلمن فورا ليتعايش مع طبيعة هذا المجتمع ويصبح إسلاما مصريا.

تحدث أخير بابا الفاتيكان فرانسيس عن محاولات الغرب إلباس الدول الإسلامية ديمقراطية غربية لا تتناسب مع ثقافة هذه المجتمعات، وكانت هذه الكوة التي انفتحت أمام المفكر، وليس السياسي، راشد الغنوشي، مبعث تصريحاته المفاجئة عن الديمقراطية الإسلامية أو المسلم الديمقراطي، أو ما سماه فصل العمل السياسي عن العمل الدعوي، مستمدا شرعية أطروحته من الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا؛ التي هي في الواقع أحزاب علمانية في الأصل.

تأتي محاولات الإصلاح التي يقوم بها الغنوشي كردة فعل عما يتلقاه البناء الكلاسيكي لجماعة الأخوان من انتقاد واسع، وهو يضطر في هذه الحالة لسحب الاحتياطي الفكري، أو استخدام الفكر المجنب، متمثلا في رموز فكرية محدثة مثل مالك بن نبي، وبن عاشور، وحسن حنفي، وباقر الصدر، ومحمد عابد الجابري، وعبدالفتاح مورو، وغيرهم ممن رسموا مخارج ممكنة لعصرنة الإسلام وإمكانية انفتاحه على الحداثة والديمقراطية. ما جعل الغنوشي يكرر مقولة أردوجان كون العلمانية لا تتناقض مع الإسلام كمخرج آمن من المأزق السياسي الذي تتعرض له الجماعة المدعومة من قوى كبرى مؤثرة في العالم.

وفي جميع الأحوال ومع كل التيارات التي حكمت منطقتنا كانت الديمقراطية هي الخاسر الأكبر

رغم هذه الخلطة الفكرية إلا أنه وعلى مر التاريخ كان هناك خصائص مشرقية ومغربية في مجالات تفكر عديدة، فقه مغربي وفقه مشرقي، أو ما يسمى عادة بالعرفان المشرقي في مواجهة البرهان المغربي أو تميز المشرق بالمرجعيات الغنوصية والمغرب بالمرجعيات العقلية التي بنيت على حراك فلسفي و(علمجتماعي) مهم استلهم خلاصة الأندلس الفكرية التي استقرت في المغرب العربي، فضلا عن الانفتاح اللغوي الواضح في دول المغرب على الفكر الأوروبي في القرن العشرين ومدارسه الحديثة.

ومثلت تونس حدود هذا التقسيم ابتداء من المغرب، ومصر حدوده الغربية، وظلت ليبيا كعادتها البرزخ الغامض أحيانا والمنسي غالبا بين هذين الفضائين وفي كل المجالات، وكان خطأ جماعة الأخوان الليبية تمثلهم الفوري للتجربة المصرية بعد الربيع العربي، وكانوا متأكدين من نجاحهم اعتمادا على عدم وجود منافس على الساحة الليبية، وباعتبار الجيش النظامي الذي أجهض مشروع الجماعة في مصر غير موجود في ليبيا، بل عملوا فورا على إجهاض أية محاولة لإعادة بنائه بتشكيل قوى مسلحة بديلة، والآن تسعى لأن تكون موازية، ويضاف إلى ذلك كون الاقتصاد الليبي اقتصادا ريعيا وطبيعة الاقتصادي الريعي أن يشكل غطاءً مناسبا للدولة الدينية كما يحدث في السعودية.

هل يسعى الغنوشي، كما أشار الكاتب أحمد الفيتوري، في مقالته: الغنوشي: الوجه الآخر لبورقيبة (بوابة الوسط 24 مايو 2016 م) لإعادة تجربة الإصلاح البورقيبية عبر توطينه من خلال التراث الإسلامي وتنقيته من التأثير الغربي الذي انتقده البابا بقوة؟ أم انتساخ تجربة تلميذه أردوجان في تركيا؟.

ومهما كانت الإجابة، وفي جميع الأحوال ومع كل التيارات التي حكمت منطقتنا كانت الديمقراطية هي الخاسر الأكبر، سواء تحت لافتات علمانية أو قومية أو اشتراكية أوليبرالية ، تبناها حكم العسكر أو حكم الحزب الواحد، لأنها جميعا تعاملت مع أطروحاتها بورع ثوري يشبه العقائد الدينية المنقذة، وليس كبرامج سياسية جدلية وقابلة للنقد والإصلاح، لأن العقل المستهلك لها كان في جميع الأحوال هو نفسه العقل المتاجر بالدين كأداة للحشد ولنيل الشرعية.

كنا نخسر مرارا، ويرجع جزء من خسائرنا التاريخية إلى خسارتنا الفادحة في حقل الفلسفة والتفكير الناقد التي قمعت في هذه المنطقة، والتي سرعان ما ذبلت براعمها لأنها مزروعة في أرض طاردة، ولأنها اعتبرت معرفة غازية تعارك على أرض ليست أرضها، كما أشار الكاتب عمر الككلي في مقالته المهمة (الفلسفة مقاومةً وغازيةً. بوابة الوسط 22 مايو 2016) التي تفتح أبوابا عدة للإجابة على سؤال طالما لا حق مفكرينا: أين خسرنا ولماذا؟.

وربما هذا هو مكمن الفارق التاريخي بين ثقافتنا وثقافة الغرب التي أشار إليها بابا الفاتيكان الذي من شروط وصوله لهذا المنصب الديني أن يكون دارسا للفلسفة بجميع مذاهبها.

*عنوان مقالة للصادق النيهوم حدد فيها تاريخ المصرف الحر مدخلا لخسارتنا التاريخية.