Atwasat

الانقسام والتنوع

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 29 مايو 2016, 10:28 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

للكاتب المسرحي السويسري الذي يكتب بالألمانية، ماكس فرِشْ، مسرحية مترجمة إلى العربية بعنوان "قصة حياة". يقوم موضوع المسرحية على إتاحة الفرصة لأستاذ جامعي لم يكن راضيا عن حياته في أن يعيش حياته من جديد.

لكن كانت النتيجة أنه ارتكب أخطاء في حياته الجديدة أفدح من الأولى! فمثلا، في حياته الأولى عرض عليه زميل له الانضمام إلى حزب شيوعي سري فرفض. في حياته الثانية يقبل فيتم اعتقاله. وفي حياته الثانية يقتل زوجته!.

وفي كتابه الشائق "تاريخ موجز للزمن A brief history of time" يقول عالم الفيزياء النظرية البريطاني، ستيفن هوكنغ Stephen Hawking، في سياق إشارته إلى فكرة اختراق حاجز الزمن نحو الماضي، أنه في هذه الحالة يمكن لشخص أن يسافر إلى الماضي فيقتل والديَّ قبل أن أولد!.

ما يربط مسرحية ماكس فرش بمزحة ستيفن هوكنغ هو الأخطاء، وحتى المآسي، التي يمكن أن تَنْجَرَّ عن فرصة إلغاء أحداث معينة من التاريخ (هنا تاريخ شخصي وفردي) والعودة به إلى نقطة مرغوبة في الماضي.

في المجال التاريخي العام يمثل تخلص الشعوب من الأنظمة الاستبدادية والحكام الطغاة، عن طريق ثورات أو هبات شعبية، نوعا من العودة عبر الزمن، أو على الأقل التحكم فيه، لتقويم المسار وتوجيه المستقبل. صحيح أن محو الأحداث التاريخية في تاريخ الشعوب الثائرة أو المنتفضة أمر مستحيل، ولكن المهم في المسألة (وكما هو الشأن في مسرحية فرش) محاولة صنع حياة أفضل وفتح أفق مستقبل أنظف.

لكن كثيرا ما تقع الشعوب الثائرة أو المنتفضة، إلى حين يقصر أو يطول، وعلى غرار شخصية المسرحية المشار إليها، في مساويء ومآسٍ وأزمات ومآزق تجعل محاسن وضعها الذي نبذته أثقل بما لا يقارن من محاسن وضعها الذي وجدت نفسها فيه.

وبغض النظر عن التحليل الذي يرى أن سلبيات ما بعد الثورات موروثةة، في جزئها الأكبر، من السلبيات التي استنبتها النظام المطاح به في بنية الشعب أو المجتمع المعني (وأنا شخصيا أتبنى هذا التعليل)، فإن المقارنات في خضم المعاناة اليومية تأخذ هذا النمط الرياضي المجرد.

أما التبريرات القائلة بأن هذا ديدن الثورات، استشهادا بتاريخ الثورة الفرنسية، فهي تبريرات نابعة من رؤية تجمد التاريخ في نقطة معينة مسقطة من حسابها ما سرى في العالم بعدها من تبدلات تاريخية. ذلك أن هذا لم يحدث في رومانيا أثر الهبة أو الثورة التي جرت هناك سنة 1989 وأطاحت بنظام تشاوشسكو، ولم يحدث أيضا في شرق ألمانيا، أو ألمانيا الشرقية، عقب الهبة أو الثورة التي حدثت هناك في السنة ذاتها وتم فيها تحطيم سور برلين.

المسألة، إذن، لا تتعلق بقانون يحتم حدوث الفوضى والتوحش والمآسي عقب إطاحة الشعوب بالأنظمة الاستبدادية في هبات شعبية، وإنما بمستوى التحضر والحس الوطني الذي يدفع فئات الشعب المختلفة وطبقات المجتمع إلى توحيد جهودها باتجاه حياة سلسة آمنة تدار فيها الخلافات بمسؤولية وفق مقتضيات الديموقراطية.

أما في حالة انعدام المسؤولية الوطنية أو ضمورها في المجتمعات الانقسامية أو المتشظية يسعى كل طرف سعيا محموما إلى تحقيق مصالحه الأنانية كاملة غير منقوصة دون أخذ المصلحة الوطنية العامة في الاعتبار فتعم، عندها، الفوضى والمآسي.

ونعني بالمجتمعات الانقسامية تلك المجتمعات التي مازالت تعتبر "مجتمعات قبل- رأسمالية" المبني وجدانها ومبنية عقليتها على "تسمين" الانقسام. ولا نعني بالانقسام مجرد تعدد وتنوع المكونات العرقية أو الدينية لمجتمع ما.

ذلك أن غالبية مجتمعات العالم هي مجتمعات متنوعة المكونات. فالمجتمع في رومانيا، التي تمثلنا بها أعلاه، متكون من الرومانين والمجريين والألمان وعدد من الأقليات الصغيرة الأخرى، إلا أنه تجاوز منذ زمن بعيد، عبر عمليات تطور تاريخية، حالة الانقسامية وما يترتب عنها.

وبالعودة إلى فرصة صياغة حياة جديدة عصرية وآمنة، نشير إلى أبرز مثلين في ما سمي بدول الربيع العربي، هما ليبيا واليمن. فلقد أتيحت لهما فرصة حياة جديدة، لكن الانقسامية، التي مازالت تعيش في الماضي، قتلت الأبوين قبل قدوم المولود. قتلت الديموقراطية والحرية، وبالتالي حالت دون ولادة الاستقرار والحياة العصرية الكريمة.