Atwasat

رسالة من لندن 4

جمعة بوكليب الأربعاء 02 أبريل 2014, 02:17 مساء
جمعة بوكليب

لو سُئل مشتغل بالفن عن عناصر نجاح أي أغنية لأجاب دون تردد كالتالي: الكلمات ثم اللحن ثم الأداء. وهذا، في رأيي، صحيح. ذلك أن المراجعة السريعة لسجل الأغاني الناجحة التي دخلت قلوب الناس وأقامت فيها وعاشت خافقة بمعانيها وبنبضها وإيقاعاتها تؤكّد ذلك. لكن ما يهمني الإشارة إليه في هذا السياق هو أن أغلبية المشتغلين بالفن يؤكّدون على أن جمال وقوة الكلمات هو الأساس الأول ثم بعد ذلك يأتي اللحن الجميل ويعقبه في الترتيب أداء المغني وقدرته على توصيل معاني الكلمات والجمل الموسيقية في اللحن إلى قلوب الناس في كل مكان. الأغنية، إذن، عمل فني وجهد جماعي تتضافر فيه جهود المؤلف والملحن والمغني.

في بعض الأحيان ينقص هذا المثلثَ المتساوي الأضلاع ضلعٌ، بمعنى أننا نعرف أن الكثير من المطربين يبدأون حياتهم الفنية كمطربين ثم، في فترة متقدمة من تجربتهم الفنية، يتحولون إلى التلحين مثل الموسيقار محمد عبدالوهاب والموسيقار فريد الأطرش على سبيل المثال لا الحصر. وفي أحيان نادرة يجتمع المؤلف والملحن والمغني في شخص واحد مثل الفنان الأميركي المشهور بوب ديلون وهناك الكثير من أمثال ديلون في العالم العربي والغربي على السواء، لكن "الماشي" هو أن الأغنية وخاصة الأغنية العربية ثلاثية الأضلاع.

السؤال الذي أريد طرحه هو لماذا، بتقادم الزمن، يسقط اسم المؤلف أولاً ثم اسم الملحن ثانياً من ذاكرات الناس وتبقى الأغنية مرتبطة بالمؤدي الذي أدّاها؟

أنا شخصياً، رغم ادعائي الاهتمام بالفن عمومًا، والغناء على وجه الخصوص، لم أعرف اسم مؤلف أغنية "وعيوني سهاره" إلا صدفة

ولتوضيح الأمر أكثر: من منكم يا ترى يتذكر مؤلف أغنية ليبية قديمة معروفة جدًا ومحبوبة جدًا ويحب ترديدها الجميع وهي أغنية "وعيوني سهاره"؟ أنا شخصياً، رغم ادعائي الاهتمام بالفن عمومًا، والغناء على وجه الخصوص، لم أعرف اسم مؤلف أغنية "وعيوني سهاره" إلا صدفة خلال المدة القريبة الماضية، رغم أنني كنت قد سمعت بالشاعر الغنائي علي السني من قبل وأعلم أنه كان شاعرًا غنائيًا موهوبًا ومتميزًا أثرى الأغنية الليبية، لكني لم أفكر، ولو لمرة واحدة، أن يكون هو، بلحمه وشحمه، مؤلف أغنية "وعيوني سهاره".

لكن لو طرحنا السؤال بهذه الصيغة: ما اسم المغنّي الذي غنّى "وعيوني سهاره"؟ لبدا السؤال سخيفًا وركيكًا، ولربما رفض البعض حتى الإجابة عنه، على اعتبار أنه مزحة ثقيلة الظل. ما أود قوله هو أن ما ينطبق على الأغنية قد يمتد ليشمل أشياء أخرى، وعلى سبيل المثال الثورة.

فالثورة عمل شعبي جماعي جاء بعد تراكمات كثيرة تكونت عبر السنين ثم، ومن خلال تضافر عوامل داخلية وخارجية، انبثقت في سياق تاريخي معين، ومحدد بغرض اجتثاث ما وجد من نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو جميعها وإحلال بديل جديد ومختلف يحقق طموحات الناس ويفتح أمامهم ساحات الخلق والتألق والإبداع والعيش الكريم.

الثورة يكتبها المناضلون على مدى سنوات طويلة عبر نضالاتهم ومعاناتهم وصبرهم ودأبهم، وهم عادة فئة من فئات المجتمع تعاني ما يعانيه الآخرون لكنّها تمتلك وعيًا أكثر من غيرها

الثورة يكتبها المناضلون على مدى سنوات طويلة عبر نضالاتهم ومعاناتهم وصبرهم ودأبهم، وهم عادة فئة من فئات المجتمع تعاني ما يعانيه الآخرون لكنّها تمتلك وعيًا أكثر من غيرها، وهذا الوعي والإدراك يقودها في عتم الليل ووضح النهار لاكتشاف أسس الخلل في المعادلة الاجتماعية القائمة، وتسعى لكشفها وتوضيح أبعاد الخلل لغيرها من الناس بوسائل مختلفة، وعلى سبيل المثال يكون الفن والأدب ممثلاً في القصة والرواية والشعر واللوحة والصورة والأغنية والمسرح وسيلة الفنانين والكتاب الذين يأخذون على عاتقهم مهمة كشف الحقيقة للناس بجمال ومتعة، لأن الجمال والمتعة أدوات الفن التي بها يتمكن من التسرب إلى أفئدة الناس وعقولهم لكي يعمل مفعوله ويسري كالسحر في الأرواح.

هناك فئة أخرى من المناضلين تختار العمل السياسي التنظيمي من خلال تشكيل جماعات سرية وتنظيمات وأحزاب تعمل على تجنيد الكوادر من مختلف فئات المجتمع عبر تبني أجندة سياسية يكون هدفها إسقاط النظام القائم وإحلال آخر مكانه.

الفرق بين الفئتين هو أن الفئة الأولى الممثلة في الكتّاب والمثقفين والفنانين والمغنين تستهدف بشكل غير مباشر إسقاط النظام السياسي القائم وإحلال بديل أفضل عبر توسيع مساحة وعي الناس وتهذيب أرواحهم والسمو بأفعالهم في عملية معقدة وطويلة زمنيًا، في حين يعمل المناضلون السياسيّون المنظمون في أحزاب، في دأب، نحو الوصول إلى هدف واضح ومحدد ومباشر وفي أقصر وقت.

حين تندلع شرارة الثورة، ويخرج الجنّي من الزجاجة المغلقة، تتحرك فئات المجتمع المتضررة من النظام القائم على شكل كتلة ملتهبة من نار وغضب وأمل، وفي أحيان كثيرة بلا رأس، ويتصف تحركها بالعفوية المصحوبة بالفوضى، وتكون التضحية بالنفس والشجاعة وطلب الموت سمة لحركة مجتمع أدرك أن الموت ثمن لا بد من دفعه لقاء الحرية. وبهؤلاء جميعًا يتم للمجتمع تحقيق مطلبه الممثل في الحرية والانعتاق، وما الانتفاضة الشعبية المسلحة التي حررت ليبيا من براثن القمع والظلم والقهر منّا ببعيدة.

ومثل الأغنية التي يضيعُ مؤلفها في النسيان، وملحنها في متاهات الزمن وسراديب الحياة، ويبقى اسم المغنّي، كذلك الثورة بعد مرور السنوات! إذ ينسى الجيل الجديد محنة العذاب والمرارات التي عاناها الناس، والشهداء الذين قدّموا أرواحهم، كما ينسون الأجيال من الكتاب والمثقفين والفنانين الذين بذروا بذور الثورة، والمناضلين الذين أزهقت أرواحهم في ظلام السجون والمنافي، ولا يعودون يتذكرون إلا وجوه السياسيّين الذين يطلون عليهم يوميًا عبر شاشات التلفزيون، وتملأ صورهم وتصريحاتهم صفحات الجرائد.

مرة أخرى يعنُّ لي مناكفتكم بسؤال: من منكم يتذكر اسم مؤلف أغنية ليبية جميلة وقديمة ولذيذة يقول مطلعها:
" سافر ما زال عيني تريده حياتي زهيدة ناس شالوه لاوطان بعيدة" ؟؟