Atwasat

عبدالحميد البكوش.. مثقف ومناضل وسياسي ورجل دولة استثنائي

القاهرة - بوابة الوسط: شكري السنكي الإثنين 09 مايو 2016, 04:06 مساء
WTV_Frequency

سياسي من طراز رفيع وأديب يشار له بالبنان، وصاحب مشروع وطني كان بإمكانه حماية الوطن من الانقلابيين. وطني من الطراز الأول، وعاشق لتراب ليبيا التي أحبها حبا غامرا أو كما قال الأستاذ إبراهيم الهنقاري: «.. أحب ليبيا كما لم يحبها أحد وأسماها (أم السعد)».

ولد رئيس وزراء ليبيا الأسبق القاضي، والمحامي، والأديب والشاعر الأستاذ عبدالحميد مختار البكوش سنة 1932م في طرابلس. درس مراحل تعليمه الأولى بمدارس مدينة طرابلس ثم درس المرحلة الجامعية بمصر حيث تحصل على ليسانس القانون ودبلوم في القانون الدولي العام 1959م من (كلية الحقوق) في القاهرة.

تزوج مرتين وأنجب من زوجته الأولى نجله الوحيد (وليد) المهندس الذي يعمل ويقيم في المملكة العربية السعودية، وله أربع بنات من زوجته الثانية.

عين بعد تخرجه ورجوعه إلى ليبيا في القضاء ثم مارس مهنة المحاماة في بداية الستينات، كذلك عمل مستشارا قانونيا لشركة البترول البريطانية (برتش بتروليوم) ورافق الشركة في زيارتها لأبوظبي العام 1961م وهي الزيارة التي اجتمعت الشركة فيها بالشيخ شخبوط بن سلطان بن زايد آل نهيان (1905م – 11 فبراير 1989م) حاكم دولة أبوظبي من الفترة 1928م إلى 1966م.

انتخب الأستاذ عبدالحميد البكوش في العام 1964م عضوا في مجلس النواب، واختاره دولة الرئيس محمود أحمد المنتصر (1903م – 1970م) في شهر يناير 1964م وزيرا للعدل في حكومته، وفاز بعضوية (البرلمان) في انتخابات أكتوبر 1964م.

وفي 20 مارس 1965م اختاره دولة الرئيس حسين مازق (1918م – 12 مايو 2006م) ليكون وزيرا للعدل في حكومته، ثم اختاره السيد عبدالقادر البدري (1921م – 2003م) في نفس المنصب حينما شكل وزارته في 1 يوليو 1967م.

كلفه الملك إدريس السنوسي (1890م – 25 مايو 1983م) في 25 أكتوبر 1967م بتشكيل الوزارة، واستمر في رئاسته للحكومة حتى 4 سبتمبر 1968م.

كان الأستاذ عبدالحميد البكوش يرى أن الجيش الليبي بوضعه وقتئذ، يثير القلق والمخاوف لأن عددا كبيرا من المنتسبين إليه يعتبرون أنفسهم امتدادا لتيارات خارج الحدود وولاؤهم لقيادة أخرى غير قيادة بلادهم، فالجيش الليبي يعج بالتنظيمات السرية المتأثرة بالمد القومي والناصري، وهي تنظيمات تدعو إلى تغيير النظام الملكي الحاكم في ليبيا، وتعمل جديا من أجل تحقيق هدفها، وقد تنجح في يوم من الأيام إذا ما ترك الجيش على الوضع الذي هو عليه! طرح على الملك إدريس، طيب الله ثراه، فكرة حل الجيش الليبي وإعادة تأسيسه من جديد تجنبا لمؤامرة يراها قادمة، ولكن الملك رفض الاقتراح ورأى إمكانية معالجة ما هو قائم في الجيش بأسلوب آخر غير التسريح من الجيش وقطع أرزاق جنود تعتمد عائلاتهم، وبشكل أساسي، على مرتبهم الشهري. وقد حدث ما كان البكوش متخوفا من حدوثه؛ حيث استولى مجموعة من الضباط صغار الرتب على السلطة في فجر الأول من سبتمبر من عام 1969م.

طرح البكوش مشروع تحديثي ليبرالي تحرري

وفي جانب ثان طرح البكوش مشروع تحديثي ليبرالي تحرري، وقد ارتكز مشروعه على مرتكزات: تحديث مؤسسات الدولة وأجهزتها. إعادة النظر في بعض القوانين ويأتي في مقدمتها: (قانون الأحوال الشخصية). تصحيح المفاهيم حول دور الحكومة ومسؤولية المواطنين ودور المرأة. إخراج المجتمع الليبي من دوائره التقليدية المحافظة إلى أفق الانفتاح والحياة الليبرالية. ويذكر أن مشروعه التحديثي انطلق من فكرة (ليبيا أولا)، وصياغة الشخصية الليبية الذي عرف بـ(الشخصية الليبية).

اصطدم مشروعه مع النخبة الليبية التقليدية (الحرس القديم)، والنخبة الداعية إلى مشروع قومي كبير، وهو المشروع الذي لا يضع ليبيا كأولية ويعتبرها جزءا من عالم عربي كبير لابد من توظيف إمكاناتها لصالح العالم العربي لا لصالحها هي وحدها أو صالحها هي قبل غيرها! كان للبكوش مشروع ليبي قومي كبير يرغب في إنجازه خلال فترة ترؤسه للوزارة، ولكن الملك إدريس كان له له رأي آخر حيث رأى أن أي مشروع يخص فكر الدولة وتوجهها لابد من عرضه على أصحاب الفكر والرأي والتخصص للمساهمة فيه وإثرائه، وأن تتحول نصوص هذا المشروع إلى أفكار عامة تعرض للمناقشة والتداول ثم للاستفتاء العام.

تمسك البكوش برأيه ورفض حلول الوسط أو التنازل عن أسس كان لا يرى تحديثا وتطويرا يتم من دونها، وفي المقابل صعد معارضوه حملتهم ضده شخصيا وضد مشروعه التحديثي التجديدي. قدم استقالته للملك حيث رأى استحالة إنجاز مشروعه في فترة رئاسته للحكومة وتراءى له إمكانية تحقيق إنجاز ما لصالح هذا المشروع من خارج السلطة. وقد أشار البكوش إلى مشروعه التحديثي واستقالته من رئاسة الحكومة، في مقالة نشرها في العام 1995م في مجلة (الوسط) اللندنية، فقال: «.. كان لدي مشروع ليبي قومي كبير. رفض الملك الراحل المشروع وخرجت من رئاسة الوزارة تمهيدا لمحاولة عرضه من خارج السلطة».

وبعد استقالته من رئاسة الحكومة، تولى منصب سفير ليبيا في الجمهورية الفرنسية، وقد وقع انقلاب سبتمبر 1969م وهو في باريس، وبعد عودته إلى ليبيا تم اعتقاله ثم قدم إلى ما سمي وقتئذ بـ(محكمة الشعب)، التي شكلها الانقلابيون لمحاكمة رجال ومسؤولي العهد الملكي منذ إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر 1951م حتى وقوع الانقلاب.

تمكن البكوش من مغادرة لبيبا بعد سنوات طويلة من السجن والإقامة الجبرية في منزله؛ حيث لجأ إلى القاهرة في العام 1977م في عهد الرئيس الراحل أنور السادات (1918م - 6 أكتوبر 1981م) الذي استمر حكمه لمصر ما بين عامي 1970م و1981 م.

أقام الأستاذ عبدالحميد البكوش في القاهرة من العام 1977م إلى 2001م حيث اضطر لمغادرة مصر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بعد تحسن العلاقات بين الدولة المصرية ونظام معمر القذافي، وأقام في إمارة أبوظبي حتى وفاته.

أصدر أكثر من ديوان شعر أثناء إقامته في المهجر، وكتب الكثير من المقالات الصحفية في الصحف المصرية والعربية الدولية كصحيفة: القدس والحياة والشرق الأوسط، والخليج، وذلك أثناء فترة إقامته الطويلة في القاهرة؛ حيث توقف عن الكتابة بعد استقراره في دولة الإمارات العربية. كتب بعض ذكرياته وما شهد عليه خلال حقبة الملكية أثناء إقامته في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان قد وعد الدكتور محمد يوسف المقريف بتزويده بما كتب بعد صدور مجلداته الثلاثة الأولى عن تاريخ ليبيا: (ليبيا.. بين الماضي والحاضر) الصادرة في العام 2005م، ولكن المرض وحالات الإغماء ودخوله المتكرر المستشفى لم تمكنه من القيام بذلك.

شارك السيد عبدالحميد البكوش بعد خروجه من لبيبا العام 1977م، في الكثير من الاجتماعات واللقاءات الوطنية، كما عقد عددا من المؤتمرات الصحفية وكتب عددا من المقالات والقصائد الشعرية.

ويوم خرج من ليبيا، خرج لأجلها، وبهدف السعي لإنهاء حكم الفرد المستبد الذي أوغل في دماء أبناء ليبيا وأهدر الطاقات والثروات، وأدخل البلاد في دوامة الفساد والفوضى، ونفى أن يكون خروجه من ليبيا بعدا وهجرانا، فقال في إحدى قصائده:
لا أبدا يا ولدي

لا ما هاجرت

لكني خيمت بعيدا عن عرس الدم

أحزنني جدا يا ولدي

في العرس الدم

لكن العيد سيقبل يا ولدي

في يوم العيد

وأجيء بلادي مشتاقا في يوم الوعد

سأجيئك يوما يا بلدي خذ هذا العهد

سأجيئك يوما يا ليبيا يا أم السعد

وفي العام 1982م أعلن من القاهرة تأسيسه لتنظيم معارض لنظام معمر القذافي، يسمى: (منظمة تحرير ليبيا)، ويسعى لإسقاط حكم القذافي وإحلال نظام دستوري ديمقراطي مكانه، وقد تولى هو رئاسته طيلة سنوات نشاطه في ثمانينات القرن المنصرم.

انزعج نظام القذافي من مقالاته وتصريحاته وأحاديثه الإذاعية

انزعج نظام القذافي من مقالاته وتصريحاته وأحاديثه الإذاعية، فأرسل في العام 1984م إلى القاهرة، فرقة مرتزقة بغية اغتياله. تعرض البكوش لمحاولة اغتيال في القاهرة في أواخر العام 1984م، ولكن السلطات المصرية أحبطت المحاولة في الحين، وألقت القبض على المتورطين فيها، وعرض يومها وزير الداخلية المصري، تفاصيل هذه المؤامرة في مؤتمر صحفي نقلته محطات الراديو ووسائل الإعلام المرئية، وفي مقدمتها التلفزيون المصري. حاولت أجهزة القذافي الاستخباراتية، بأمر من القذافي نفسه، اغتياله عدة مرات لكنها فشلت وكانت آخر مرة، المحاولة التي كان المخطط لتنفيذها يوم 16 نوفمبر 1984م، والتي ضحكت فيها المخابرات المصرية على القذافي حيث قبضت الأجهزة الأمنية المصرية على العناصر التي كلفها القذافي بتنفيذ الجريمة بعد وصولها إلى القاهرة مباشرة، وجعلت هذه العناصر تتواصل مع أجهزة القذافي، وكما هو متفق عليه، وكأن شيئا لم يحدث، ثم أخذت المخابرات المصرية عبدالحميد البكوش إلى موقع الجريمة المفترض حسب التقرير المعد والمرسل سابقا لأجهزة القذافي الاستخباراتية. في مقابر (الغفير) بشرق القاهرة وقامت بتصوير البكوش، وبشكل سينمائي، في وضع الجثة الهامدة تماما. دماء ومواضع طلقات الرصاص. أعلنت الوكالات الأنباء ووسائل الإعلام المختلفة بعد نشر الصور خبر اغتيال عبدالحميد البكوش المعارض ورئيس وزراء ليبيا الأسبق، وقامت سلطات نظام القذافي بإعلان مسؤوليتها عن اغتياله، ليخرج بعدها اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية المصري ومجموعة من مساعديه من أمن الرئاسة وأمن الدولة والداخلية، وبحضور عبدالحميد البكوش. فيعلن الوزير للعالم أجمع نبأ فشل محاولة الاغتيال.

غادر البكوش القاهرة إلى إمارة أبوظبي في العام 2001م، والتي استقر بها حتى توفاه الله في يوم الأربعاء الموافق الثاني من مايو 2007م، عن عمر ناهز الخمسة والسبعين عاما، بعد أن أصيب بمرض عضال في الكبد أدخله في أواخر مارس 2007م في غيبوبة لم يتمكن من الخروج منها حتى وافته المنية في أحد مستشفيات إمارة (أبو ظبي) في دولة الإمارات العربية المتحدة. ودفن في قبر رقم (614) في مقبرة (أبوظبي) إلى جانب السيد محمد بشير المغيربي (1923 – 2006م) أحد قيادي (جمعية عمر المختار) وأشد معارضي سياسات حكومات العهد الملكي، وسفير ليبيا السابق لدى دولة الإمارات العربية المتحدة في عهد معمر القذافي.

فقدت ليبيا بفقدان عبدالحميد البكوش شخصية ثقافية بارزة، وعقلا سياسيا يصعب تعويضه، وأحد رجالات الوطن الأوفياء والمخلصين الذين أفنوا حياتهم في خدمته. ورحيله، وبكل المقاييس، ليس خسارة لليبيا فحسب بل للعالم العربي والأمة الإسلامية التي تشهد له بإسهاماته الثقافية والأدبية، وبمواقفه تجاه قضايا أمته على جميع الأصعدة.

رحم الله البكوش في ذكراه وسلام وتحية إلى روحه الشريفة الطاهرة في علياء ملكوتها. رحم الله السياسي البارع الذي نفتقده اليوم وافتقدناه.


 

ملحوظة: اعتمدت في بعض مما ورد في هذا التعريف على مقالة: (عبدالحميد البكوش في ذمة الله) للأستاذ/ فاضل المسعودي، والمنشورة يوم الخميس الموافق 3 مايو 2007م في موقع (إيلاف) الذي يملكه ويترأس تحريره الأستاذ/ عثمان العمير.

عبدالحميد البكوش.. مثقف ومناضل وسياسي ورجل دولة استثنائي

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم