ترك سحر الصدفة والموهبة معًا في مخيلة رسام الكاريكاتير حامد انقيريط أثرًا نافذًا على توصيفاته الساخرة للمشهد اليومي ونقله نسخة كربونية إلى اللوحة، وشكّل هذا التراكم التجريبي قوة دافعة نحو منصة النشر مع نهاية العام 1987.
بدخوله لشعبة التربية الفنية بمعهد ابن منظور، ستزداد هذه التحبيرات تشذيبًا وصقلًا وممارسة واقترابًا لتجارب الرواد، وفهمًا أعمق لخصائص الومضة الكاريكاتورية التي تمتاح من البيئة وتتشرب ثقافتها وتحولها إلى سرد ساخر، ينقش نفائس تفاصيل حكايات الناس والزمن، ويقدم وجهات نظره في تمظهرات الأحداث وتداعياتها.
يخلص الفنان إلى محليته مشتبكًا مع تجاذباتها، ولا يقدم شخوصه هنا كضحايا أو أبطال أو جسر عبور للفكرة «كومبارس» بل يحدد من كل هذه الدائرة مراتب أو سلالم للصعود والنزول، الارتقاء والهبوط في مناورة تستحث مدخلات اللوحة على العمل معًا دون تمايز، وهو مسار يتغدى من ارتدادات القلق.. القلق المجرد.
صور وأنساق
تنتمي ملاحظات النحت الكاريكاتيري إلى الخطاب الشعبي، يعب من مدخرات أحاديثها المستترة وركام وتفاسير وحوارات ذواتها الرائمة للنهوض، ونحن نتعرف إلى نماذج تحيلنا إلى شخوص ومعالم وتكوينات وثقافة تشربتها الذائقة وأفرزتها في هذه التفاصيل.
ومن جانب آخر يشخص انقيريط الظلال المنعكسة الممرنة على تلاقح السالف والآني وما يتحضر لاحقا، ويقدمها كشفًا لسرائر الحالات البينية وينهض بحمولاتها إلى رؤية عامة لمسار أنساق مضمرة متحكمة في قوالبها وتشابكاتها العديدة، ففي لوحة «غاز الطهي» و«العريس» انتقادًا لسلوك المظاهر وإشارة إلى القيم الروحية الملغاة من قائمة حياتنا المادية.
وإذا كانت الكينونة الإنسانية تنهض في داخلها على خلاصة التصحيحات المستمرة لأخطائنا فإن ملاحقة ورصد تلك السلبيات وإظهارها مهمة ترادفها، لذا تكشف رسومات «أطفال المدرسة»، «امتحانات الشهادة الثانوية»، و«مشاكل المواصلات»، و«المشعوذ» الصورة المشوهة للسلوك وينبغي قذف عواقبها خارج دائرة النقاء الذاتي.
تتجه الأعمال كذلك إلى تقوية دلالاتها «الفكرة، والشخوص، والموقف»؛ إذ يوظف المشهد المضحك المبكي تأثيرات الجمل وتفاصيل الحدث بالقدر الذي يصل الأولى إلى شرح بصري ساخر يجسدها الثاني، ولا يصبح لهذه اللغة صورتها إلا بضخ كل ملحقات الجذب الفني للجسد وتخير درجات الجمل المترجمة للحيز البصري، والتي تتباين مضامينها من فنان لآخر بحسب الذائقة والأسلوب.
التابعة
يتوقف الفنان في صور أخرى عند أوجاع المشهد الصحفي الذي تحولت مع مرور الزمن كما يسميها انقيريط «التابعة» أي لعنة سوء الحظ لكنها هنا تشير للفوضى وهضم الحقوق والتهميش.. وكذا الارتهان للمول على حساب النزاهة، والإلماح إلى سرداب التيه الذي نسير فيه جميعًا مدفوعين بإرادتنا أو بغيرها، وقد صيرته المتناقضات لمستقنع من الوحل.
تنحو المعرفة إلى استجلاء الغامض وتقديم الجديد، وتتخذ منافذها للقارئ عبر الصوت والصورة والكتابة، وظل هذا الثلاثي في تجلياته التقنية هدفًا للاستحواذ والسيطرة إذا ترجمناه لاشتقاقاته بدءًا بالراديو وانتهاءً بالفضاء العنكبوتي، ويبقى الكاريكاتير هنا متفاعلاً مع هذه الخطوط ومعرضًا في دائرة الضغط للإقصاء والتشويه والتهميش لكنه يعبر عنها ويلتمس مفرزاتها بل ويشخصها بلا مواربة فالتابعة لا تبدو مطب موقت بل رفيق لذود.
تعليقات