Atwasat

2- من أدبيات رسائل الفاخري

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي الأحد 13 يونيو 2021, 05:09 صباحا
WTV_Frequency

 2- «جنقي.. الساخر الودود»  

 ما سر روح «جنقي» الساخرة الصابرة، الحكيمة التي «تتنفس محبة، وبهجة؟»، وبماذا نفسر هذا الحزن والمرارة في كلماته عندما يكتب؟ ثم هل هناك ما يربط بين السخرية والبهجة، وحزن كلماته؟ ليس التي ينتقيها لمقالاته، فقط، بل أيضا لتلك التي يوظفها لرسائله لأحبابه!

إنسان حقيقي قادر على مجابهة مآسي الحياة، بالبهجة والاعتزاز بالنفس، والعيش بشرف وكرامة

كنت قد عرّفته على فنانة تشكيلية، وناقدة أدبية جيدة، وهي زوجة صديق عزيز من مصر، وقضينا أمسية في منزلهم، أهداها في تلك الليلة كتبه. بعدما أمضينا ليلة بهيجة حقيقية، تخللها حسن إلقائه أشعار البياتي، والمتنبي، ونزار قباني، وغيرهم من الشعراء، فهو راوية متميز للشعر، ناهيك ببديهيته، و(قفشاته) والنكتة البليغة، التي تفجر مرح الكئيب مهما بلغ حزنه، لدرجة أن صديقا فكر في توثيق سخريته، من خلال تجميعها من أفواه رفاقه!

هذه السيدة، من بعد أن قرأت كتبه، قالت لي: «أنا مش قادرة أتصور أن هذا الكاتب، (اللي شايل الدنيا على دماغو) المتألم من عذابات الناس، الفيلسوف القادر على تصوير الحزن بهذا المستوى من الكآبة، هو الشخص الذي ما زلت أسترجع بهجته وبديهيته وروحه المرحة..» وهذا، في الواقع، هو الراحل العزيز خليفة الفاخري.

كنت أريد أن أحكي لكم قصة رسالة، بقدر ما أحزنتني في حينها، بقدر ما أسعدتني، فيما بعد، ولذلك أجلتها من أجل التمهيد برسائل كتبها قبلها بسنوات، من قبل أن تعاكسه الأيام، فالذي يعرف «جنقي» حق المعرفة ويقرأ هذه الرسالة سوف يحزن معه، ولا ينبغي أن نغفل عن رسائل بهيجة كثيرة ينبغي أن نطلع عليها، قبل مجموعة الرسائل التي كتبها من بعد أن تقاعد من العمل الوظيفي.

سوف نستهل موضوع الرسائل هذا بالمفرح منها، وسوف نفرح جدا، أيضا، بعدما نقرأ تلك الحزينة، فجميعها تنم أن كاتبها إنسان حقيقي قادر على مجابهة مآسي الحياة، بالبهجة والاعتزاز بالنفس، والعيش بشرف وكرامة، على الرغم من قدرته الفائقة في تأليه السلطان، وتملق المانحين، ولكنه لم يفعل، لم يختر الغربة بعيدا عن الوطن، على الرغم من عروض انهالت عليه، بعدما تم الزحف على السفارات الليبية، وحينها كنت معه في الدنمارك، ولكنه رفضها كلها؛ من بينها عرض حكومة العراق أن يتولى إدارة المدرسة العربية في كوبنهاجن ولكنه اعتذر، بأدب جم، تماما مثلما اعترض على عروض أخرى. وعندما سألته: «لماذا؟ رفض تلك الفرصة»، خصوصا أنه لم يكن، حينها، مكبلا بالتزامات تعيق هجرته. أجابني: «لا أحد يحترم إنسانيته، يرضى أن يعيش كمواطن من الدرجة الثانية في أي بقعة من العالم. أنا فقير، بائس، مكبل بنظام صارم في وطني ولكنني منتم تماما إليه.. لا أحد يستطيع أن يحرمني من الإحساس بملكيتي له، فيه مراتع الطفولة والصبا، هنا ذكرياتي، لن أتركها من أجل حانة جيدة الإضاءة!».

الرسائل بوح الكاتب، بما لا يستطيع نشره على الملأ

أدب الرسائل موضوع يشترك فيه معظم الكتاب، فهي مثلما يقول النقاد: «بوح الكاتب، بما لا يستطيع نشره على الملأ، إما بسبب حميمية الموضوع، وإما أنه شأن لا يهم القارئ»، ولكن الأمر يختلف مع رسائل جنقي لأنها على الرغم من خصوصيتها، فإن الجوانب الإنسانية تجعلها تهم الناس كافة. بين خليفة الفاخري، وصادق النيهوم عدد من الرسائل المتبادلة، أصولها ضاعت في ملابسات حدثني عنها، وأخبرني عن مصيرها، ولكنه كان محتفظا بنسخ منها. ولما سألته عن رسائله هو إلى صادق، وأنا أعرف أن من عادته الاحتفاظ بنسخ مما يكتب؛ أخبرني أنها ضاعت من بعد انتقالهم من شارع لحيول إلى سيدي حسين، ولكن يعتقد أن صادق النيهوم يحتفظ بها. لا أحد الآن يعرف مصير وثائق النيهوم، ولكن الفاخري ظل محتفظا بالعديد من نسخ ما يبعثه من رسائله.

خلال فترة عمله في الدنمارك، وقبلها كتب إلى والده وأشقائه وأصدقائه عددا من الرسائل، وكل رسالة منها تحتاج منا إلى وقفة، فنرى من خلالها حجم حنينه إليهم، وأثناء دراسة شقيقه خارج الوطن تبودلت بينهما رسائل غاية في البلاغة، والنقد والفكاهة، له أيضا رسائل بعثها إلى صديق صباه وشبابه محمد البعباع، منها ما كتبه له محليا، ومنها ما بعثه له في طرابلس، من بعد أن انخرط في سلك «البوليس الاتحادي» وأطلق عليه «جنقي» لقب «الصول»، ولعل ما بحوزتنا رسالة بعثها بتاريخ 1/5/1957 كان عمره حينها 15 سنة، وبالتالي لا تعد من تلك التي بعثها إليه في طرابلس، وهي تبرز الأسلوب البلاغي في ذلك الوقت، فيستهلها:

«إلى الصديق العزيز والأخ الوحيد محمد البعباع.. تحية بهية، وأشواقا قلبية، ومودة وفية.. وبعد»، ثم يأخذ في الاعتذار عن تخلفه في موعد، ويستطرد: «لست أدري أي نوع من الشياطين هذا الذي جعلنا نفترق ليلة أمس، فأرجو أن تتقبل أسفي ومعذرتي، وإنني واثق على أنك ستصفح عن هذا الخطأ..». ويشير إلى أن البعباع بعث له رسالة: «غراء في أعماق قلبها صورة لك قدمتها لي هدية فاخرة، ولي كبير الشرف والعناية أن أقبل هدية من أعز الأصدقاء. وبمناسبة هذه الهدية أرجو أن تتقبل الرد على هديتك، وهي صورة لي، قد تعدُها جميلة أم قبيحة، أم تعدها صورة غزال أمصور، أو صورة تيس، فكل هذا لا يهمني، ولكن الذي يهمني هو أنك تتقبلها ولك مني مزيد الوفاء، وجزيل الشكر، ومحبة الأصدقاء الأوفياء.. وختاما تقبل تحياتي، صديقك المخلص..».

الرسالة بسيطة وعادية ولكن لو اعتبرنا أنه كتبها آنذاك وهي في المرحلة الابتدائية، أو بعدها بقليل، علينا أن ننتبه إلى لغته العربية الجيدة، ناهيك بجمال خطه فهو أكثر من كونه مقروءا بوضوح، وسليم التشكيل المفروض والمعتد به في ذلك الوقت. يتضح تفوقه وتميزه وحبه للغة العربية. والجانب الآخر الذي يتعين أن ننتبه إليه الروح المرحة، وإن كانت بسيطة وبريئة فهي بعيدة عن الحزن والألم والمعاناة الصعبة.

صداقة هذين الأخوين لم أر مثلها في حياتي

الرسالة الثانية، كتبها 11/11/ 1969 إلى شقيقه الفاخري، عندما بدأ دراسته في القاهرة، الدكتور مصطفى، كان حينها شابا اجتاز مرحلة الصبا، وأصبح صديقا لأخيه الكبير خليفة، ولم تعد العلاقة تراتبية بين أخ كبير، وأخ صغير وإنما «كبر الأخ الصغير» فاتخذ منه أخوه الكبير صديقا حميما، وظلا كذلك حتى رحيله.

صداقة هذين الأخوين لم أر مثلها في حياتي، حميمين كانا لدرجة يصعب وصفها، لقد وضع «جنقي» مصطفى بين عينيه، وظل يرى فيه ذاته، كان فيما بدا لي يعوض فيه عدم مواصلة دراسته التي لم تتسن له، ولذلك كان له بمثابة الراعي الرسمي لمواصلتها، من خلال صداقة حقيقية، لم أقف على مثلها مطلقا. بينهما الكثير من الرسائل، توفر لي عدد مما كتبه جنقي للدكتور مصطفى، وجميعها ممتلئة فكاهة وسخرية واسترجاع ذكريات، وفوق ذلك توجيه ونصح واهتمام يفوق الوصف. إليكم هذه الفقرة من الرسالة التي أشرت إليها، والتي أخبره فيها مصطفى أنه لا يملك حينها سوى جنيه واحد:

«أخي مصطفى.. دعني أعانقك الآن.. فليس ثمة ما أتمنى أن أفعله غير ذلك، إنني أود أن أضع يدي على كتفك، وأهزه قليلا، وأسألك عن حالك كالمعتاد، وأبلغك سلام كل العائلة، ثم أتطلع بنصف عين إلى الجنيه المستلقي فوق أحد كتبك، وأشرع في مدحك على الفور، إن لساني يظل يلغو عندئذ بكلمات (الشكيرة) الفخمة دون وعي، ويهتز، وينتفض، ويقفز بحماقة مثل ذيل (أبي بريص) مقطوع!! وفيما يكاد يخنقك البكاء لرقة حالي، بعد أن تنتفخ أوداجك من تأثير المديح، وتهُّم أن تعطيني الجنيه اليتيم، عندئذ يدخل علينا (فتحي)، وما إن يراني حتى يقذفني بضحكة بركانية، تنسيني ما جئت من أجله -أعني الجنيه-!!».

ومن بورمث، حيث درس جنقي اللغة الإنجليزية كتب يوم 28/5/1970 رسالة: «أخي مصطفى.. يا أروع الرجال، أنا الآن في (بورمث)... لقد رماني الله بمقلاعه الهائل إلى أبعد نقطة في العالم -كما يخيل- وقال لي فيما يصفعني على قفايْ: (اذهب في اتجاه أنفك، وابحث عن فرصتك عبر آلاف الفخاخ المنصوبة على امتداد الطريق..» ثم يقول في فقرة أخرى:

«لقد تباعدنا كثيرا، أليس كذلك؟ وإنني لأشعر بأنني على استعداد لأن أبيع نصف عمري من أجل أن نلتقي الآن، وأن نحكي سويا مثلما كنا في الأيام الغابرة، ونضحك حتى تتقلص أمعاؤنا، ونسترجع ذكريات أصدقائنا، ودعاباتهم المبهجة، وألف شيء لطيف آخر!! لقد تباعدنا كثيرا.. وأنا أشتاق إليك أكثر وأود لو أراك، فدع ذلك يتحقق بطريقة ما، سواء في كلمة ودودة تبعثها إليَّ، أو حتى في حلم عابر. فقط: دع ذلك يتحقق بطريقة ما، وتذكرني كثيرا!!».

ويلوح له، مبتسما، بالجريدة، قائلا: «منور يا جنقي!»

في الحلقة التالية سوف نتناول مزيدا من مثل هذه الفقرات التي تتميز بروح الدعابة والفكاهة، والنصح والإرشاد لأخيه ولأصدقائه، وتلك التي بعثها إلى صديقه الحميم: والده الحاج محمد الفاخري، المتحابان بدرجة يصعب وصفها، والذي ظل يترحم عليه في «ذكراه اليومية». من نوادر الحاج محمد الفاخري، كان يقتني عدد «الحقيقة» الأسبوعي، وإن كان به مقالة لخليفة الفاخري، يمر بدراجته من شارع العقيب حيث محل جزارته، عبر ميدان الشجرة، كان اسمه آنذاك «بيصاكاني» من أمام المقهى الرياضي، حيث يحلو لجنقي أن يجلس على حاجز من «جعب» أمام المقهى، في الغالب رفقة عبدالرحيم فايد أو عمر جعاكه، ويلوح له، مبتسما، بالجريدة، قائلا: «منور يا جنقي!». وكان له نصيب وافر من رسائله، منها على سبيل المثال هذه الرسالة التي بعثها له من بورمث يوم 16/7/1970، عندما كان يدرس اللغة الإنجليزية هناك، يستهلها:

«والدي العزيز

كل تمنياتي الطيبة إليك، وكل سلامي، وكل ما أملك أن أتمناه لك، وإلى كل أفراد عائلتنا الحبيبة، أنا أرسله إليك محملا فوق أجنحة حنيني إليك.. ومدى اشتياقي إلى جلسة واحدة معكم بينما رائحة الأكل تنبعث من ذلك المطبخ خلال أيدي والدتي الحبيبة... آه!!...».

ويصف لوالده حالة تجاهل وامتعاض الطلبة الأوروبيين وتعجبهم منه، ثم يصف له كيف أن نتائج امتحاناته غيرت وجهة نظرهم، ويوضح له صعاب الإقامة وتنقله من بيت إلى آخر. ويختتم رسالته قائلا: «على أية حال أنا أتذكركم طوال الوقت، وأراكم في أحلامي، وأحكي للطلبة باعتزاز عنكم جميعا، وأرحل تجاهكم كل حين على أجنحة اشتياقي إليكم، فلا تنسوا (جنقي)، تذكروه دائما، لأنه يحبكم كثيرا، ويتذكركم دائما»، ثم يختتم رسالته قائلا: «أرجو أن تقبلوا جميعا رأس أمي، وأن تقولوا لها إن (جنقي) يحبها أكثر مما يتصور خيال بشري، وإنه يتمنى لها طول العمر والصحة، وسلامي إلى (سعيدة) وإلى كل أبناء إخوتي الأعزاء. ابنك المحب خليفة».

وطوال عمله في الدنمارك لم تنقطع رسائله الجادة، والساخرة أيضا إليه، ومن الطرائف بعث له صورة شخصية، مكتوب على خلفها الآتي: «إلى أعظم حاج في العالم، إلى الحاج (مرتين) محمد الفاخري. هذه صورة (جنقي)، وهو يمثل ليبيا في عقد اتفاقية مع الدنمارك.. تستطيع أن (تحلف) بأنه ليس ذلك الـ(جنقي) القديم، على الأقل عن طريق التطلع إلى ربطة العنق!!. (جنقي) يا حاج، أصبح سياسيا عجيبا، كما لو أنه لم تلده تلك الحاجة، لقد قلت لكل السياسيين هنا إن الحاجة (يامنه) لا تعرف الدبلوماسية ولكن (الحاج) علمني إياها!! سلامي إليك.. وإلى رمضان ومحمد وعبدالكريم.. وحتى الحاجة!! ابنك المحب: خليفة».

عديدة هي رسائله لوالده، الذي كان من جيل ما قبل الحرب، الذي أبعدته الحاجة عن التعليم، (يفك الخط)  ويستطيع القراءة، وأيضا يقرض الشعر الشعبي.

سوف نتناول مزيدا من رسائله في الحلقات القادمة.

الملصق
الملصق
لعلها اول رسائله لصديقه محمد البعباع
لعلها اول رسائله لصديقه محمد البعباع
محمد البعباع رفيق صباه
محمد البعباع رفيق صباه
من رسائله إلى شقيقه مصطفى الفاخري
من رسائله إلى شقيقه مصطفى الفاخري
من رسائله إلى صديقه العزيز مصطفى الفاخري
من رسائله إلى صديقه العزيز مصطفى الفاخري

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
نقابة الممثلين المصرية تمنع الإعلام من عزاء «السعدني».. وتعتذر للصحفيين
نقابة الممثلين المصرية تمنع الإعلام من عزاء «السعدني».. وتعتذر ...
انطلاق فعاليات الدورة الـ14 لمهرجان مالمو للسينما العربية في السويد
انطلاق فعاليات الدورة الـ14 لمهرجان مالمو للسينما العربية في ...
جلسة وجدانية حول «زياد علي» في مركز المحفوظات الأربعاء
جلسة وجدانية حول «زياد علي» في مركز المحفوظات الأربعاء
«سيفيل وور» يواصل تصدّر شباك التذاكر في الصالات الأميركية
«سيفيل وور» يواصل تصدّر شباك التذاكر في الصالات الأميركية
نقل المغني كينجي جيراك إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري
نقل المغني كينجي جيراك إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم