Atwasat

القاص الليبي «الثني» يكتب أهم جماليتين في نص واحد

القاهرة - «بوابة الوسط» لينا العماري الخميس 04 سبتمبر 2014, 02:31 مساء
WTV_Frequency

حسام الدين الثني قاص ليبي في ريعان شبابه يكتب القصة الشعرية القصيرة، قاصدًا دمج أهم جماليتين من القصيدة والقصة القصيرة، وظهر هذا النوع من القصص منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، وصار له كتّابه الذين أبدعوا فيه وحققوا حضورًا من خلاله، والذي أعتقد أنه صار الاتجاه الأبرز في كتابة القصة القصيرة.

وفي قصته الأخيرة التي تحمل عنوان «اكتبْ، صِعْ، وسافر» تأخذ الفلسفة حيزًا لا بأس به محاولاً وصف الفراغ والصمت والمقابل لهما من مفردات ومعانٍ:

كنتُ ما أزالُ حيًّا حين كتبتُ هذا النصَّ.
كانت اللحظات تنساب من عمري دون رحمة. كانت تُشعرُني بمرارة الخسارة الفادحة! العمرُ أقصرُ من الطموح والليلُ يضيق عن الحلم العميق!
الريقُ نبتة صَبَّارٍ. فماذا أحكِي لكم؟
....
هل تعرفون ماذا حدث حين فتحتُ الحقيبة؟
أعني ساعة الوصول حين شرعتُ أُفرغُها وأرتبُ أغراضي. كانت ذاكرتي قد رجعت بي إلى ذلك الـمَشهدِ المتكررِ في حياتي: حقيبة السفرِ على الطاولة. أنا أطوي الملابسَ وأرتبها داخلها.
«تبِّي تسافر؟»

كذلك قال الطفلُ صديقي الذي اعتاد رؤية هذه اللحظة في أحلامه. ابتسمتُ، نظرَ هادئًا إلى دمية صفراءَ بحجم إصبعه كانت في يده الصغيرة. تكلم ورفع صفاءه برفقٍ نحوي:
«خذ هذي معاك. العبْ بيها وأنتَ مسافر!»

يا لجدِّية براءتهم! يا لنقاء الأطفال! انحنيتُ على غدير عينيه:
«حبيبي. خلّيها معاك. أنتَ سفرُكَ طويلٌ أطول من سفري. ستحتاج إلى كلِّ أشياء عالـمِكَ الناعمِ. أنا سأهديك شيئًا آمل أن تجده ذات يوم حين أرحلُ أنا أطول الرحلات. سأكتبُ لكَ:
...
أنْ تسافر يا صديقي الصغيرَ يعني أن تلمس سقفَ العالم وتطأ القاراتِ بخطواتكَ الطويلة. أن تتنفس كلَّ الأهوية. أن تشرب كلَّ الأمواه. أن تعبد الله بكل الأديان وتكتشفَ أنك قديمٌ قِدَمَ الأرض وأنَّكَ صدقًا ابنُ الكون، ابنُ التراب المنثور مذ ولد العالم. لا شيء فيك جديد! كل ما فيك ذراتُ غبار عتيقة تراكمت وتراكمت فكونتك كلَّكَ. أنت تنفضها عن جسدك كل يوم وتكسب غيرها من حيثُ تمشي وتستوطن وتتغذَّى.

كل ذرة لها حكاية. لها تاريخ بعمر الكون ذاتِهِ. بعضُها كان جزءًا من جسد أحد الأسلاف (فرعون ما. أو ربما على كفِّ أفقر من سكن الأرض). بعضُها كان على متن نبات أو حيوان أو صخرة. بعضها كان منحدرًا مع الأنهار أو منهمرًا مطرًا مسافرًا. نحن أشقاءُ المخلوقات. كلِّ المخلوقات. بل نحن وكلُّ المخلوقات واحد.
...
لقد بدأت الحكاية بصخرة مُصْمَتَة لا هواءَ فيها ولا صوتَ. ويوم تفتَّتت وانتثرت حُبَيباتٍ أصغر من كل شيء. ابتعدت عن بعضها. تمامًا هنا يا عزيزي ظهر الفراغُ بين الأشياء لأولِ مرة. ولوَّنت الأصواتُ لوحة الصمتِ البيضاءِ لأولِ مرة. تجاذبت الحبيبات وتنافرت. تنافرت وتجاذبت فنمتْ مجاميعُ وَسَـمَها الناسُ لاحقًا باسم (ذرات).

الأشياء هي الأشياء. يكمنُ السِّرُّ في الخلطة، عددِ الحبيباتِ وحركتِها. إنها تمنحُ الذَّرة وجهَها واسـمَها. ترقصُ الـحُبَيباتُ حين تلتقي. ترقصُ. كلُّ الوجودِ يرقصُ وينتشي. وعلى مدى اللحظات الهائلة اللاحقة تتجمع الذراتُ وتنتفضُ. تنتفضُ وتتجمعُ وتُـكون مخلوقاتٍ: أجماد وكائناتٍ حية. حين يرحلُ أحدُها إلى الأبد يُسلِّمُ غبارَهُ إلى أُمه الأرض فيولدُ منها كائنٌ جديدٌ. وتنمو منها أجرامٌ أخرى. (لا تُفنى المادة ولا تُستَحدَث).

يرحل الغبارُ في الأجساد. يسافرُ فينا. يلمسُ سقفَ العالم ويطأ القاراتِ بخطواته الطويلة. يتنفسُ كلَّ الأهوية. يشربُ كلَّ الأمواه. يعبد الله بكل الأديان ويكتشفُ أنه قديمٌ قِدَمَ الأرض وأنَّه صِدقًا ابن الكون، ابن التراب المنثور مذ ولد العالمُ. لا شيء في الكون جديد! فهل عرفت معنى أن تسافر؟
...
ياااااه كدتُ أنسى قولَ ما حدث حين فتحتُ الحقيبة!
أعني ساعة الوصول حين شرعتُ أُفرغُها وأرتبُ أغراضي. كانت اللحظاتُ تقطُرُ من دمي دون رجعة. أنا لا أملك أثمن منها! إنها رأسمال حياتي أغمضُ جَفني عميقًا وأعيشُها بشِدَّة. أمتَصُّ حلاوتَها ولا أمتلئ. أنا طائرُ «الخليش» عُمري أقصَرُ من جناحِي. ليلي يضيق عن حلمي العظيم! وكذلك النهارُ!
الريقُ نبتة صَبَّارٍ. فماذا أحكِي لكم؟
..
لقد بدأت الحكاية بذرات غبار دقيق: (هيدروجين وأكسجين) تجمَّعَتْ وسافرتْ. لمستْ سقفَ العالم فكانت دموعُ السماء. انهمرتْ. اهتزَّتِ الأرض ورَبَتْ. عُجنَتِ الأجساد من ماءٍ وغبارٍ. فصارت الأحياءُ نبضَ حكاية. نحملُها ماءً فينا. نجدِّدُه كل يوم. نُبدِّلُـه ويُبدِّلُنا. نشربُهُ من وطنٍ نمر به. نَبكيه في وطن آخر. وحين يجيء أوانُ الرحيل - رحيلِ الماء ورحيلنا - نسلِّمُه إلى أُمِّنا الأرض. فالماءُ أمانة. يرحل منا كلُّه. يعود إلى وطنٍ آخر. ونمضي نحن وطنُهُ السابِقُ فراغًا كما جئنا؛ لا نحمِلُ معنا شيئًا منه. نسافرُ فراغًا بين الأشياء! فهل عرفتَ معنى أن تسافر؟
..
كنتُ ما أزالُ حيًّا حين كتبتُ هذا النصَّ. وكنتُ أقولُ: إن الغبارَ الدقيقَ يلعبُ بالأَبصار. يلهو. يبني حافاتِ الأَجرامِ على هواهُ. يخلُقُ أمواجًا متفاوتَة الأطوالِ والرغبات. وحين يسقطُ الضوءُ على الأمواج يعكِسُ بعضُها حُزْمَة النورِ كلِّها فيُبهرُنا جناحُ النورسِ بياضًا. كذلك الغَيمُ. وهكذا هُنَّ زهراتُ اللوزِ المائلة إلى الحمرة. بعضُ الأَجرامِ تَـمُصُّ شعاعَ النور لكنَّ طول أمواجها يعكسُ أشِعَّة البُنِّي فقط على العين. أرأيتَني أرى صفاء عينيكَ بلون الكستناء؟ وأرى العشب أخضرَ باعثًا على البهجة؟ أرى السماءَ زرقاء وأرى البنفسجَ والبرتقالَ والفَراشَ والعالمَ البديعَ. وأرى دُميتَكَ صفراءَ لونها! أرى ريشَ الغُراب وقد جمَعَ النورَ – كلَّ النورِ – فما عكسَ منه شيئًا. سيبدو لكَ أسود كأنه شَطرُ الليلِ.
..
وتقولُ الحكاية إن الصَّمتَ فراغٌ. وإن الأصواتَ مجاميعُ نقراتٍ تُرَصِّعُ صفحة الفراغِ. كلُّ نقرة هي هَزَّة تسافرُ وسْطَ الغُبار الدقيق تسري إلى أسماعنا. وتقولُ: ذات يوم تحرَّكت أحبالُ العصفورِ فرقصتِ النقراتُ واهتزَّت الأمواج فكان التغريد لأولِ مرة.
وذات يومٍ اهتزَّتِ الأوتار. تذبذبت. رقصَت. فكانت الموسيقا. اهتزت النقراتُ فكان صوتُ الـمِنشارِ. غِناءُ الـحِسان. هديرُ الريحِ وبكاءُ الأُمهات. وكان الكلام. النقراتُ هُنَّ النقرات يا صديقي. يكمُنُ السِّرُ في الخلطة. في البصمة التي تتناسل وتتناسل وتسافر. فهل عرفتَ معنى أن تسافر؟
..
انفتَحَتِ الحقيبة. افرغتُ الأغراضَ من جوفها وشرعتُ أرتبها. تمامًا هناك في الركن المملوء بالدهشة دون أن أدري. في الجيب الصغير وجدت رسالة صديقي. لقد وصَلَ سلامُكَ الـمُختبئُ يا صديقي الصغير. قلبي الآنَ يبتسم فقد وجدتُ دميتكَ الصفراءَ تسافر معي. فهل عرفت معنى أن تسافر؟
«خذ هذي معاك. العبْ بيها وأنتَ مسافر!»
سلامي عليكَ كلما خطرتُ ببالك.

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم