Atwasat

في ذكرى رحيل دكتور هادي بولقمة

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي السبت 10 أبريل 2021, 12:37 صباحا
WTV_Frequency

في ذكرى رحيل الدكتور هادي بولقمة

لم يكن خلال سنوات دراستنا الجامعية عميد الجغرافيين الليبيين، الدكتور هادي بولقمة، معلماً وكفى، فالطالب ما أن يقترب منه يصبح صديقه، يمنحه الإحساس بأنه رفيقه الذي يعرفه منذ سنوات! هكذا أحسست من بعد

محاضرته الأولى، فلقد قدمني إليه رفاق سبقوني إلى الجامعة. لم يطل الأمر حتى أصبحت زيارته معتادة لمحلي للخضار والبقالة، الذي حلّ محل قوة سي عقيلة، وظللت أتعيش منه أثناء دراستي. كان كثيراً ما يسحب صندوقاً من صناديق المحل الخشبية، ويشاركنا شاهي العشية، أو يشاركنا يشاركنا وجبة عشاء، أو أية سهرة ثقافية. كنت أستلف منه، ويستلف مني، وكنت أعرف أنه الوحيد الذي يتخذ من "الجيب" العلوي من بدلته مكاناً لنقوده، ولا تتردد أصابعي من التسلل إلى ذلك الجيب للاقتراض منه! لكن هذا الود ينقلب ازدراء وتجاهلاً ما أن يتكاسل أحدنا أو يخرج عن حدود اللياقة والأدب.

حادثتان بارزتان، حدثتا لي معه، جديرتان أن تذكرا، فهما تبرزان كيف كان وهو وكيل الجامعة في وقت عصيب، ودقيق، مليء بالفخاخ التي ينصبها أدعياء الثورة في نظام القذافي لأولئك الذين احترموا علمهم وشهاداتهم وكانوا يتعاملون بحذر مع هذه اللجان، ومن دون أن يتركا فرصة واحدة لهم في السيطرة على الجامعة حتى بعدما ابتدعوا أساليب لم تحدث في أي مكان في العالم ولعل إشراك الطلبة في مجالس الكليات، وفي إدارة الجامعة أصبح واقعاً. كل الحرص على نقاء الجوانب العلمية في الجامعة والمحافظة على الأساسيات من الصدام المباشر مع اللجان وبعض الأدعياء، الذين لم يتوانوا في إلصاق التهم بالذين وقفوا للتصدي لهم حرصاً على سلامة الأسس الأكاديمية.

لعل الخمسة الذين أبعدوا من إدارة الجامعة كانت البداية، وهؤلاء هم: الأساتذة أحمد العنيزي، جبريل الزروالي، محمود شمام، والسنوسي العنيزي، كانت البداية للتدخل والسيطرة على الجامعة، ثم لم يطل الأمر حتى قامت اللجان الشعبية، وكان أول قرار –خاطئ - أصدرته اللجنة الشعبية لكلية الطب هو قرار إبعاد الدكتور رؤوف بن عامر من عمادة كلية الطب! أما القرار الثاني الخاطئ أيضاً فهو إعادتي مسجلاً للكلية، معتقدين أن سبب تركي العمل هو محاربة الدكتور رؤوف لي، وهو أمر لم يكن صحيحاً، فتركي العمل كان بسبب سوء فهم وضحته فيما سبق، ناهيك عن أنني اكتشف متأخرًا أنني لا أنفع للقيام بوظيفة إدارية. خلال تلك الهوجة، وفيما كان الدكتور هادي بولقمة وكيلاً للجامعة، وصدور قرار اللجان الطلابية بعودتي مسجلاً للكلية، باشرت عملي.

ام يكن الدكتور هادي بولقمة مجرد أستاذ علم، وإنما كان الأخ العطوف الأكبر لطلبة الجامعة كافة

ذات يوم طلبني على عجل الدكتور هادي بولقمة الذي كان حينها وكيلاً للجامعة، فذهبت إليه وما إن دخلت حتى قام من مكتبه وأقفل الباب. وجلس في مواجهتي محتداً غاضباً بصورة لم أره بها من قبل، مبيناً خيبته فيّ ونحن اللذان كنا صديقين جدًا، قال لي: «لم أفكر يومًا أنك بهذا القبح! أنا لا أعلم كيف لم أنتبه إلى دناءتك وخستك!»، وظننت أنه يسخر، لكن عندما أيقنت أنه جاد، انفعلت وقمت مؤكداً له أنني لن أسمح له بسماع المزيد ما لم يوضح لي أسباب غضبه. أخبرني بأنه علم من الدكتور رؤوف أنني محتفظ بجواز سفره، رافضاً أن أمنحه رسالة موافقة الكلية على سفره إلى الخارج. أكدت له أنني لم أرَ جواز سفره، ولم تصلني مكاتبة بشأن رغبته، وطلبت أن يمنحني ساعة أتحقق من الأمر وأعود إليه، وذهبت مباشرة إلى الدكتور رؤوف وعرفت منه أنه سلم الطلب والجواز إلى مكتب الأمين الإداري، وذهبنا معاً وسألت محتدًا: إن كان قد أحال إليّ طلب وجواز السفر، واتضح أنه محتفظ به في درج مكتبه، وعرف الدكتور أنه لا علاقة لي بما حدث. أخذت الجواز وذهبت مباشرة إلى مصلحة الجوازات كان حينها طيب الذكر سالم الحصين هو مديرها، وكان من رفاق تلك الفترة، أخبرته بما حدث وأنني لن أغادر مكتبه من دون موافقته، والحقيقة أنه أكد أن الدكتور رؤوف فوق أي شبهات، وغادرت مكتبه بجواز السفر المختوم بموافقة المغادرة.

في تلك الفترة كانت تأشيرة الخروج من ليبيا أمراً غاية في الصعوبة، عدت سريعاً إلى الدكتور بالجواز، وسلمته له، ورجوته أن يذهب إلى الدكتور هادي بولقمة ويوضح له الأمر. في ذلك اليوم جاءني الدكتور بولقمة من إدارة الجامعة إلى مبنى الأدفنتست الذي كان إدارة للكلية، معتذراً مؤكداً أنه سوف يقبل عزومة عشاء اعتذاراً عما حدث، مؤكداً بسخرية أن "العزومة" على حسابي! ومنها انقشعت غمامة سوء الفهم، وأيضاً سوء علاقتي بالدكتور رؤوف.

كان للقذافي رأي آخر، فلقد أعلن  في الجامعة الليبية تغيير اسمها إلى جامعة قاريونس

أما الموقف الثاني فحدث مباشرة بعد تركي الجامعة للمرة الثانية وانخراطي في العمل الحر. في تلك الفترة كثرت "الفانلات" الشبابية الممهور صدرها بأسماء جامعات عالمية. خطر لي أن أطبع مثل هذه الفانلات ممهورة باسم الجامعة الليبية - بنغازي. وطبعت في إيطاليا عشرة آلاف من هذه الفانلات دفعت فيها مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت، خصوصاً أنني كنت شرعت في بناء بيتي. وظللت أترقب وصول طلبيتي. غير أنه كان للقذافي رأي آخر، فلقد أعلن  في الجامعة الليبية تغيير اسمها إلى جامعة قاريونس. وهكذا تزامن وصول الشحنة بعد الخطاب مباشرة، وذلك يعني مؤامرة! فشباب بنغازي سوف يرتدونها، وكأنهم يتظاهرون ضد قراره، وصوف يصلون لمَن حرض باستيراد هذه الفانلات. ناهيك عن أن الجمرك قد لا يسمح بدخولها فيصير هذا (البيزنس) كارثة قد تفقدني رقبتي.

واحترت لأيام إلى أن قررت الالتجاء إلى قيادات الجامعة في تلك الأيام. فاتجهت مباشرة إلى الدكتور هادي بولقمة، ووضحت له الأمر. اتفق معي فعلاً على مغبة وصولها في هذا الوقت، وطلب مني أن أمهله يوماً أو اثنين. لكنه جاءني في الليلة نفسها وطلب مني أن أوافيه بعرض بتاريخ رجعي إلى ما قبل خطاب القذافي وصورة لشعار الجامعة، واستحلفني ألاّ أضيف ديناراً واحداً أعلى مما أنفقته، فوعدته بذلك. ذهبت له بما طلب، ولم يمر يوم حتى وافاني برسالة بتوقيعه بالموافقة وأمر بالتوريد. وأحال الشحنة إلى قسم الرياضة، ووزعت على الطلبة كملابس للرياضة. وهكذا أخرجني من أزمة حقيقية، ولا أعتقد أن غيره كان يقوم بهذه الخدمة من دون فائدة تصله. أشهد الله أنه قام بذلك كله بنبل واقتناع أنهى بالفعل مشكلة كانت حينها كبيرة جداً بالنسبة لي.

لم يكن الدكتور هادي بولقمة مجرد أستاذ علم، وإنما كان الأخ العطوف الأكبر لطلبة الجامعة كافة؛ يقف على مسافة واحدة منهم جميعاً، لدرجة أن كلاً منهم يشعر وكأنه الأقرب إليه من دون بقية زملائه. واستمر مع بقية زملاء العمل الصديق الوفي لكل منهم.

رحل تاركاً إرثاً زاخراً لوطنه، وسيرة عطرة، في زمن كان لا يعلو فيه سوى من يبايع بالصوت والكلمة ويفاخر بذلك. لقد فرض المرحوم الدكتور هادي بولقمة احترامه بجده وعمله وعلمه وحسن علاقته ليس بالزاوية مدينته ولا ببنغازي التي عاش بها طويلاً بل ليبيا كلها. لم نسمع منه تطبيلاً لأحد ولم نرَ منه تزلفاً أو تقرباً لأي كان. كانت ليبيا هي غايته. وكان التعليم الجامعي هو رسالته، فنفذها بروح فارس عطوف.. ورجل صادق وأستاذ جليل، مؤهل لكل ما تولاه من مناصبها. وفوق ذلك صديق كل من له علاقة بالجامعة طالباً كان أم موظفاً، وفوق ذلك نادراً ما كنا نتذكر أنه من مدينة غير بنغازي. اليوم 10/4/2017 الذكرى الرابعة لرحيلهhttp://alwasat.ly/news/art-culture/279618.

 

الدكتور هادي بولقمه والدكتور رؤوف بن عامر من رجال الجامعة الليبية
الدكتور هادي بولقمه والدكتور رؤوف بن عامر من رجال الجامعة الليبية
الدكتور هادي بولقمة والسيدة حرمه
الدكتور هادي بولقمة والسيدة حرمه
بعيدا عند مكتبه مع صلبته امام القسم الرياضي
بعيدا عند مكتبه مع صلبته امام القسم الرياضي
كان استاذنا ونجمنا وما ان يكون مشروعا لصورة معه حتى ينضم المتواجدون كافة
كان استاذنا ونجمنا وما ان يكون مشروعا لصورة معه حتى ينضم المتواجدون كافة
مجموعة من اساتذة فضلاء ساهموا في تأسيس وإدارة الجامعة الليبية
مجموعة من اساتذة فضلاء ساهموا في تأسيس وإدارة الجامعة الليبية

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
جائزة «غونكور» في بلاد أورهان باموك تعكس استمرارية الفرنكوفونية في تركيا
جائزة «غونكور» في بلاد أورهان باموك تعكس استمرارية الفرنكوفونية ...
عميل سابق في الموساد كتب رواية مطابقة لهجوم حماس على إسرائيل قبل سنوات قلِق على المستقبل
عميل سابق في الموساد كتب رواية مطابقة لهجوم حماس على إسرائيل قبل ...
وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما
وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما
إطلاق طوابع بريدية خاصة بالمواقع التاريخية الليبية في قائمة «إيسيسكو»
إطلاق طوابع بريدية خاصة بالمواقع التاريخية الليبية في قائمة ...
كتاب وأدباء ومثقفون: هكذا تأثرنا بحرب الإبادة الجماعية في غزة
كتاب وأدباء ومثقفون: هكذا تأثرنا بحرب الإبادة الجماعية في غزة
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم