في مطلع الأربعينيات غاب الغيث النافع عن ليبيا ثلاث سنوات متتالية، طوق الجوع بعدها بنغازي، فكان عام الشر. اتفق القادرون الخيرون من أعيان بنغازي أن يتركوا بعد صلاة المغرب ما يزيد على حاجتهم من أكل أمام بيوتهم ليكون في متناول غير القادرين من أبناء المدينة، وأيضًا إلى عابري السبيل، القادمين إليها سعيًا وراء لقمة العيش، وبسبب هذه الخيّرة أطلقوا على بنغازي «رباية الذائح».
نالت ليبيا استقلالها، ولم يطل الزمن حتى عم الخير ونسى الناس أيام الجوع والمصطلح الذي قيل عن بنغازي، غير أن مشادة كلامية حدثت أثناء محاكمة رجل ليبي شريف، ما كان له أن يقف متهمًا أمام عسكر لم يكونوا أساسًا مؤهلين لمنصة القضاء، قال مفتخرًا عندما احتد الجدل: «بنغازي (رباية الذائح) فما بالك وأنا أبنها» فعاشت الصفة التي ألحقت ببنغازي مجددًا.
في مثل هذا اليوم منذ ثلاث وعشرين عامًا رحل المبروك عوض البسيوني، الذي أحيا هذه الصفة بعد موتها إلى مدينته بنغازي، التي ولد بها سنة 1926 بشارع البزار، وتعلم بكتاتيبها، ثم بمدارسها الليلية، وطور إمكاناته الدراسية بمجهوده الذاتي، وتعلم اللغة الإنجليزية وأجادها بالمراسلة، وأتقن اللغة الإيطالية أيضًا. بدأ حياته العملية في الشأن المحاسبي، مع وكلاء الملاحة في بنغازي، ومن ثم تعين بوزارة المالية محاسبًا بإدارة الجمارك في بنغازي.
وفي العام 1955 انتقل إلى الحكومة الاتحادية في طرابلس وعمل هناك حوالي أربع سنوات. رجع بعدها إلى بنغازي رئيسًا للحسابات العسكرية في الجيش الليبي برتبة رئيس (نقيب) ثم صدر مرسوم ملكي بترقيته إلى رتبة زعيم. كان قد مارس في شبابه الرياضة كلاعب كرة قدم، هو شقيقه أمبارك، مع نادي الأهلي والنجمة، وأيضًا فريق الاتحاد بطرابلس.
بعد سقوط النظام الملكي وقيام عهد سبتمبر سجن مع كبار ضباط الجيش والبوليس وساسة العهد الملكي وقدموا إلى ما سمي بمحكمة الشعب التي رأسها عضو مجلس قيادة الثورة بشير هوادي، وعلى الرغم من أن تقارير المحاسبين القانونيين المصريين، الذين كلفتهم حكومة سبتمبر بفحص الحسابات العسكرية للجيش الليبي أكدت أنها من أدق وأنقى حسابات ليبيا، إلاّ النظام العسكري أطال التحقيق ثلاث سنوات، بعدها خرج بعد أن برأءته المحكمة وعاش مكرمًا بين ذويه ورفاقه تسبقه سمعته الحسنة وعفته ونزاهته. كان واسع الاطلاع، شغوفًا بالقراءة، مولعًا بكرة القدم، سريع البديهة، مؤدبا وخلوقا.
صباح يوم 15 /7/ 1997 انتقل إلى رحمة الله، وفي اليوم نفسه رافقته جنازة مهيبة، لتوسده بحزن جليل ثرى مقبرة الهواري.
تعليقات