الراحل حمد المسماري كاتب لاذع النقد، حاد الرؤية عفيف النفس، لا يعرف المداهنة في الود، ولا المجاملة في الحق، يحترم الكلمة وشرف المهنة، كتبتُ له مرة مستهلا رسالتي: بـ«عزيزي أحمد» فرد عليَّ سريعا: «(معلش) أستاذ محمد، اسمي حمد!» كان يحب أن يخاطب هكذا: حمد! تماما مثلما نخاطب، في ليبيا، من اسمه أحمد.
من الستينات لم أكتب شيئا، لأسباب وضحتها في مناسبات عديدة، ولكن مطلع التسعينات، تقاعدت إلى حد ما، وباشرت الكتابة، فسئلت ذات مرة: «من أي جيل أحسب نفسي على كُتاب ليبيا؟» فأجبت حينها: «من جيل التسعينات!»، وكان حمد المسماري من أبرزهم.
كان يرى في النيهوم، والفاخري، والفزاني، رموزا أدبية شامخة لا يحق لأحد أن يتطاول عليها، ولذلك كان بالمرصاد لكل من يتجرأ على ذمهم، أو بنقدهم نقدا لا يراد من ورائه إلا النيل منهم. وتحسرت كثيرا بعد أن رحل من دون أن ينشر موضوعا، أخبرني أن موضوعه الرد على من رأى أنهم أخطؤوا في أوراقهم التي كتبوها عن صادق النيهوم، في ندوة أقيمت عنه قبيل رحيله بأسبوع أو نحو ذلك.
علاقتي بحمد المسماري توطدت عقب مقالة نصف لاذعة كتبها عن روايتي «الكراكوز». كان -رحمه الله- قد أعطاني مسودتها قبل نشرها، متوقعا أن أطلب منه تغيير بعض من أسطرها! فأخبرته -على الرغم من انزعاجي- برضائي عنها كما هي! فنشرها كما هي بجريدة أخبار بنغازي، وجاءني مبتسما بنسخة منها! عندها وضحت له وجهة نظري حول بعض ما ورد في مقالاته قلت له:
- «إنك تتساءل عما جعلني أترك القصة القصيرة وأتجه إلى كتابة التاريخ، ثم بسخرية واضحة، إلى كتابة وصفات الطهي؟ ثم استغربت من انتقالي من مجال أدبي لآخر بسهولة؟ سألته: ألم يقم مثلك الأعلى بذلك قبلي، ولم تنقده؟ ألم يكتب صادق النيهوم -رحمه الله- عن التاريخ، وعن مطبخنا الليبي؟ ثم ألم تنتقل أنت من كتابة الشعر إلى المقالة الأدبية، ثم الصحفية؟ ابتسم وقال:
- «واو، فاتت عليَّ! ولكن لماذا لم تنبهني عندما عرضت عليك المقال؟» فأجبته: «هأنذا أخبرتك الآن! وكيف أقنعك بأن القراءة الثانية، خصوصا من صديق، سلوك صحي للغاية»..
منذ تلك الواقعة كثيرا ما كان يزورني وغالبا ما يحكي لي عن مشاريع مقالات أنجزها، وأخرى ينوي كتابتها، غير أنه كان يحكي عنها فقط، ولا يغير منها أبدا -مهما نصحته- كانت حكاياته لي عن مشاريعه مجرد تفكير بصوت مسموع.
حمد -رحمه الله- ينطلق نحو الحق بقناعة كالسهم، لا يردعه أحد ولا يوقفه رأي من أحد!
آخر زياراته لي، أعاد لي خلالها كتابًا كان استعاره مني، وحدثني عن مشاريع ينوي كتابتها، وأخبرني -للمرة العاشرة- أنه يعد للقاء عن أعمالي، وأنه اقترب من الانتهاء من أسئلته، واعترف أنني أتطلع إلى هذه الأسئلة لأنني أعرف أن أسئلته دائما ناضجة وحادة! حدثني، كذلك عن مجموعة مقالاته التي يأمل أن يحويها كتاب، سيهديه إلى صالحة، حدثني أيضا عن مكتبة يريد أن يقيمها ببيته، ليضع بها كتبه المكدسة في كراتين:
- «أريد لصالحة أن تتفتح عيناها على الكتب، وليس على استار أكاديمي!»
صالحة هي ابنته التي يحق لها أن تفخر، عندما تكبر، بأنها تحمل اسم حمد المسماري، تماما مثلما نفخر نحن أن والدها نحبه لأنه رجل صادق وشريف، «عصران» وعفيف!
رحم الله صديقي حمد المسماري، الذي تصادف يوم أمس ذكرى رحيله الحادية عشرة. ومعذرة أخي حمد، فلم أنتبه فاسمك سقط سهوا من الكشف الذي نعمل من خلاله.
تعليقات