Atwasat

قهوة سي عقيلة (49) البداية قارب اسمه حليمة

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي الأربعاء 26 سبتمبر 2018, 03:53 مساء
WTV_Frequency

    بالجهة اليمنى من رمال شاطئ الملاحة صار لنا ركن ننزوي فيه، مستمتعين بالود والشمس والرمل ونسيم البحر في العصاري، أطفالنا يمرحون على الشاطئ أمامنا، غالبًا ما نكون قد أحضرنا ما يسد رمقهم، وكنا قانعين، أحيانًا تخيم علينا سحابة حزن، عندما نتذكر من توفاه الله ، أو سجن، او هاجر مرغما. لم يكن بمقدورنا إلا أن نتحسر ونستكين، أما إذا كان لعبدالحق خارقة حدثت في البلاد ويريد أن يحكيها لي، فيشير برأسه إلى البحر، يقول لك: «(تبي تحكيلي) أو تسمع مني جوا في البحر، وبمفردنا». كانوا قد حققوا معه عن أمور قال إنه لم يحكها إلا لمخدته ووجدتها في درج رئيس جهاز الأمن الداخلي!».

      مصطفى زيو (كلينه) من عيال البحر، ومن المصرفيين الأوائل. جيل بدأ مبكرًا بمصرف ليبيا المركزي، منهم عبدالله عصمان، سعيد الأطرش، مفتاح الشكماك، مصطفى المبسوط، عبدالحق الورفلي، محمد التواتي. (كلينه) من أكثر الناقمين على وصول القذافي إلى السلطة في سبتمبر. في الأشهر الأولى للثورة كثر عسكر الجيش في مراجعة المصرف، وكان له في قرض الشعر الشعبي، كان قد سأله أحد عن البنك، فأجابه: «البنك اللي كان اتقول إيش.. تملح تما يلعب فيه الجيش»، ولقد وصل البيت على السلطة فمنها ظل في مكانه على الرغم من كفاءته. وظل يرجع كل هم أو غم إلى وصول الجيش وقيام المجتمع الاشتراكي الذي وصل بالناس إلى حالة صعبة في ثمانينات القرن الماضي.

     ذات يوم عدنا من رحلة من دون سمك يذكر، فقال لنا: ما فيش فائدة.. الحواتة يقولون: «صيد الحوت يريد العدل.. ولكن أين العدل؟ فلا تتعبوا أنفسكم»، والحقيقة أن الصيادين يقصدون بالعدل موازنة الرياح بحيث لا يكون البحر هائجًا، ولكنه أبى ألا يفسرها بغياب عدل السلطة. تلك الأماسي الطيبة، ومتعة الرفقة والحكايات في الملاحة، فقدتها حين بدأت هواية صيد السمك تتحول شيئًا فشيئًا إلى مهنة، خصوصًا بعدما وجدنا طريقنا نحو البنكينة.

    غالبًا ما يتحفنا عبدالحق الورفلي بنوادره، أما إن جاء الكابتن مختار عبيدة من رحلة خارجية، فأمسية ذلك تكون بالتأكيد ليلة عرس، ولكنني لم أعد منتظمًا في مشاركتهم تلك الجلسات، أتطلع إلى مجيء مصطفى الفيتوري، فيخيل لي أنني ألمح سمكًا يتقافز فوق سطح الماء يناكفني، وما كان مصطفى يتأخر إلا بسبب الخراف التي تستوردها شركة المواشي واللحوم، كان وصولها يعني انسحابي من بين تلك الشلة الرائقة النقية، فمصطفى هو صاحب القارب، ولم أكن قد تعلمت بما فيه الكفاية للإبحار بمفردي فكان وصوله يعني انسحابي من بينهم.

     ذات مرة كنا منسجمين في حكايات ممتعة وكان عبدالحق متألقًا، لمح مصطفى الفيتوري قادمًا من بعيد، فقال: «أهو جاء الأطرش وتو يخربها..»، وانفجر ضاحكًا، قال: «يحكى أن موسيقارًا كان في رحلة سفاري، ضل طريقه وسط الغابة، وجد نفسه في مواجهة أسد. فتسمر مكانه، وسحب بعفوية قيثارته من على كتفه وأخذ يعزف، فاستكان الأسد، وجاء أسد آخر واستكان بجانبه، وثالث.. ورابع كانت الأسود منسجمة مع أنغام العازف. التفت أسد نحو جاره وقال له: (تو يجي الأطرش ويخربها)، وفجأة اندفع من خلفهم أسد وانقض على العازف. التفت الأسد نحو جاره وقال له: «مش قتلك تو يجي الأطرش ويخربها». كان مصطفى في تلك الفترة يشكو من بدء ثقل سمعه! فمجيء مصطفى يعني سحب قاربه نحو الماء وخروجي معه للصيد، أحيانًا يرافقنا نوري الشريف، وأحيانًا يونس عاشور، أما أنا فقد أدمنت الخروج منذ علقت بصنارتي سمكة، تلك السمكة ولم أدر ما أفعل لها وتأخرت في سحبها فالتقط نوري الخيط، ودفعني منفعلاً خاشيًا أن تفلت السمكة! وقررت أن أتعلم كيف يتم صيد السمك بمهنية! فلازمتني (الزفرة) طويلاً، هذه الزفرة التي قال عنها الرايس موسى الكعوار: «وراسك عند خير من الّأونطا!».

    تواصلت رحلاتي كهاوٍ لصيد السمكة وتطورت مهارتي،  وذات مرة جاء عدد من مهندسي شركة جيمس كيوبت إلى نادي الملاحة، وكان من بينهم مهندس إنجليزي – عراقي - كان يسخر من قدرتي فناكفني واتفقنا على رهان أن أعود إليه بعد ساعة بسمكة محددة، والحقيقة أنني ما كنت أستخدمه من وسائل كان وفق قواعد مهنية وعلمية، ولكن أن أحدد السمكة فهي مسألة حظ، فالصياد ليصطاد سمكة قاع يتعين أن يكون الطعم المموه يتحرك فوق القاع، ولكن أسماك القاع كثيرة ومتعددة، ولكنني وفقت وعدت له بالسمكة حية، ورميت (الفروج) المطلوب أمامه.. ومنها لم يعد هذا المهندس يسخر من قدرتي، بل أصبح مصدرًا مهمًا للغاية لمراجعي.

    لم يعد لي ما أعمل سوى ترجمة وريقات جيمس كيوبت وترجمة كتب الأسماك وصيدها، وقضاء الأماسي في البنكينة مع الرياس حول طنجرة حرايمي. كنا في البداية كزوار: العبدالله وعبد الله عصمان، والكابتن محمد بوكر، والدكتور محمد المطماطي وشيئًا فشيئًا تطور الحال وأصبحنا صيادين، وأصبحت (فلوكة) مصطفى الفيتوري التي لم تكن في الأساس مهيأة للصيد وإنما للفسح، ولكن سرعان ما استخرجنا لها رخصة وأصبحت قارب صيد، وتكرم عبدالله زيو بمنحنا (براكة) ملكة لتكون بمثابة كوخ لنا مثلما لدى بقية الصيادين. وسريعًا ما صار رياس البنكينة جميعًا أصدقائي وأصبحوا يعاملونني كفرد منهم. عيسى الفلاح، سالم الزليتني، موسى الكعوار، محمد بليقة، يونس الخشمي، غيث العمامي، سليمان كويدير، خليفة سردينة، حمد العجل، محمد سالم أو (قارون)، مثلما كانوا يلقبونه، وإن كنت أعرفه منذ ترددي أثناء صباي على بحر الشابي، وسليمان كويدير، وناصر الورفلي.. أما خليفة حسن مغالية الفلاح، فتعلمت منه ما لم أجده لا في الكتب ولا عند رياس آخرين، خصوصًا على معرفته لأحوال الطقس ودلالات معرفته له، وكان لصداقتي للحاج المهدي جعفر، الذي سميته: (قاهر البلميطا) وكذلك كان لسالم بوجازية خصوصية بسبب رفقة حسنة. ولم يطل الأمر حتى لحق بالمهنة جمد الهباب وعقوب شاكير، فصارت ليالي البنكينة (الجديدة) رونق، إذ أصبحت وكأنها نادٍ مفتوح للعددين من أبناء بنغازي.

    خلال زياراتي المتكررة للبنكينة كان الرايس سالم بوجازية، وهو بالمناسبة، ميكانيكي ديزل من الطراز الأول، جاء للبنكينة لإصلاح محرك فكانت تلك المهمة بداية لمهنة أتقنها، فقررت أن أعمل معه بحري، ومنه تعلمت الكثير، وكذلك من صالح الفقي، وهو الآخر لم يكن في الأصل صياد سمك ولكنه هاوٍ ترك سيارة النقل واشترى مرحبًا وأصبح صيد السمك مهنته، وأيضًا (مصطفى بن زبلح أو «شكاني» بن زبلح) الذي تعود علاقتي به إلى أيام الطفولة بشارع نبوس.

    اشترى سالم قاربًا جيدًا وتولى إصلاحه وحمّله بالمعدات اللازمة وأصبح جاهزًا للإبحار، فعملنا معًا موسمًا كاملاً، كان هو الرايس وأنا وشقيقاه بحارته ونصبنا خيمتنا الصيفية في (النخلات) وهي جونة قريبة من بنغازي، حيث مصائد جيدة تمتد حتى قمينس. كان التخييم الصيفي يجمع صيادين متوافقين، فيعملون بالليل، وينقلون أسماكهم مبكرًا إلى سوق السمك، أو (البنكينة) مثلما نسميه. في تلك المرحلة من حياتي كتبت عن تجربتي الكثير، في مجموعتين قصصيتين هما (الحوات والقبلي) الذي فاجأني به الراحل خليفة الفاخري مطبوعًة. والثانية (الديوك)، وسوف أسرد منهما مقاطع تخدم سردي هذا. فمن مجموعة الديوك إليكم هذه الفقرة من قصة (أيدي)، أصف فيها حال الصيادين، فكثير ما قمت بنقل الأسماك من المصيد إلى البنكينة، تقول الفقرة:

«يتعين عليه أن يتمهل في قيادة شاحنته المستهلكة، فهي محملة بصناديق رصت بأسماك متنوعة، وببراميل المياه الفارغة. سار متعرجًا بالمسالك الضيقة بين الكثبان الرملية عبر المستنقع الملحي الجاف، إلى الطريق المعبدة الرئيسية التي تقوده نحو المدينة.

   كان مخيمهم يبعد حوالي خمسة وثلاثين كيلومترًا جنوب غرب المدينة، وكانت المسافة من الطريق المعبدة حتى كثبان الشاطئ الرملية حوالي عشرة كيلومترات تتوسطها مستنقعات ملحية تغمرها المياه الراكدة خلال فصل الشتاء، وتجف في الصيف بدرجة تستطيع المركبات فوق طرق محددة.

    ".. ينتهز الصيادون تناسب طقس فصل الصيف وجفاف المستنقعات التي تحول بينهم وبين الشاطئ في فصل الشتاء، فينتشرون بامتداد الساحل بحثًا عن مصائد الأسماك الجيدة، فيخيمون بالقرب منها وهناك يعملون ويرسلون أسماكهم عبر البر وهناك يعملون ويرسلون أسماكهم عبر البر إلى سوق السمك بمرفأ الصيادين بالمدينة.

   عندما وصل بشاحنته إلى الطريق الرئيسية عرج نحو اليسار عندئذ، كان عليه أن يسرع وألاّ تأخر عن ميعاد وصوله، فتجار سوق السمك بالرصيف يختلقون ألف عذر لعدم شراء الأسماك التي يتأخر وصولها إلى السوق، خصوصًا خلال الصباح، حيث يكثر عرضها.

تساءل عما قد يحدث لأسماكه، إن تعطلت الشاحنة التي لم تعد أساسًا لنقل الأسماك؟!

-           «ستضيع بالتأكيد..» قال في نفسه: «فكمية الثلج المنثور عليها لن تصمد في نار جهنم هذه. هكذا دائمًا نعاني نحن الصيادون من الطقس، في الصيف نخاف على أسماكنا، وفي الشتاء نخاف على رؤوسنا!».

شغله مصير أسماكه إن تعطلت الشاحنة، إلاّ أنه طمأن نفسه بأن شيئًا من هذا لن يحدث، وحتى إن حدث فإن حركة السير بهذا الطريق متواصلة، ولابد أن سيارة ما ستقف لمساعدته، أو الأقل تنقل له أسماكه.

-           «هراء!!» قالها بصوت مسموع، فقد انتبه إلى أن الصيادين هم فقط الذين يتأففون من الأسماك وروائحها وهي حية. لقد اعتادوها، فالصياد لا تزعجه رائحة السمك، فهو مثلاً، لا يميزها عندما يعانق صياد مثله! ثم من يرضى أن يحمّل بسيارته صناديق مبلولة تخرُ ماء من فوق سمك ميت؟».

محمد عقيلة العمامي والرايس سالم الزليتني
محمد عقيلة العمامي والرايس سالم الزليتني
اول مجموعة قصصية كتبتها عن تجربة صيد السمك
اول مجموعة قصصية كتبتها عن تجربة صيد السمك
مختار اعبيده ومحمد عقيلة العمامي وفرحات حواس سنة 1978
مختار اعبيده ومحمد عقيلة العمامي وفرحات حواس سنة 1978
من اليمين على الفيتورى ومختار اعبيده ومحمد حمامه جلوسا احمد فكرون ومصطفى امحمد الفيتوري ( لكريك)
من اليمين على الفيتورى ومختار اعبيده ومحمد حمامه جلوسا احمد فكرون ومصطفى امحمد الفيتوري ( لكريك)
مجموعة قصصية عن تجربة ( البنكينا)
مجموعة قصصية عن تجربة ( البنكينا)
الرايس سالم بوجازيه
الرايس سالم بوجازيه
المركب حمزة من عملى عليه " كبحري " كتبت اسماك المتوسط وطرق صيد السمك وسلوك الاسماك
المركب حمزة من عملى عليه " كبحري " كتبت اسماك المتوسط وطرق صيد السمك وسلوك الاسماك
مع الريس قليل الكلام واسع الخبرة غيث العمامي
مع الريس قليل الكلام واسع الخبرة غيث العمامي
الرايس حسين مغليه الفلاح ما تعلمته منه عن الطقس وجدته مطابف للكتب المتخصصة
الرايس حسين مغليه الفلاح ما تعلمته منه عن الطقس وجدته مطابف للكتب المتخصصة
خليفه الفاخري قضينا اياما رائعة برصيف الصايدين ورحيمه فايد مارس صيد السمك في بوالصفن
خليفه الفاخري قضينا اياما رائعة برصيف الصايدين ورحيمه فايد مارس صيد السمك في بوالصفن
مع كبتن طيار محمد محمجوب بوكر رايس وغطاس من الطراز الاول
مع كبتن طيار محمد محمجوب بوكر رايس وغطاس من الطراز الاول
الدكتور احمد المطماطي بحري من الطراز الاول
الدكتور احمد المطماطي بحري من الطراز الاول
الرايس عقوب شاكير
الرايس عقوب شاكير
الرايس حمد الهباب
الرايس حمد الهباب
(كلينا) مصطفى زيو الباسم الودود
(كلينا) مصطفى زيو الباسم الودود
بالصورة الرعيل الاول من رجال بنك ليبيا الذين قال عنه مصطفى زيو " البنك اللي كان ادقول ايش.."
بالصورة الرعيل الاول من رجال بنك ليبيا الذين قال عنه مصطفى زيو " البنك اللي كان ادقول ايش.."
الرايس محمد بغطوس صانه ماهر للقوارب والمراكب والعبدالله والرايس عيسى مغليه الفلاح
الرايس محمد بغطوس صانه ماهر للقوارب والمراكب والعبدالله والرايس عيسى مغليه الفلاح
حمرايا رعشت احمد المطماطي
حمرايا رعشت احمد المطماطي
البحري محمد بوجازية وبحري تحت التدريب عقيلة محمد العمامي
البحري محمد بوجازية وبحري تحت التدريب عقيلة محمد العمامي
الرايس القبطان محمد محجوب بوكر
الرايس القبطان محمد محجوب بوكر
حميده فوزي كلاي .. له قصة في مجموعتي .. وهو من رفاق وزارة الاشغال كان (جرسون ) ونيس بوذراع في قهوة الاشغال
حميده فوزي كلاي .. له قصة في مجموعتي .. وهو من رفاق وزارة الاشغال كان (جرسون ) ونيس بوذراع في قهوة الاشغال
ودروس مستفادة من عيسى الفلاح
ودروس مستفادة من عيسى الفلاح
مع محمد سالم ( قارون) والصورة التقطها خليفه الفاخري
مع محمد سالم ( قارون) والصورة التقطها خليفه الفاخري
الاول من اليمين مفتاح بوزيد والاول من اليسار مصطفى زيو في القاهرة
الاول من اليمين مفتاح بوزيد والاول من اليسار مصطفى زيو في القاهرة

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
الروك المستقل يهيمن على ثاني أيام «كوتشيلا»
الروك المستقل يهيمن على ثاني أيام «كوتشيلا»
شهادات كتَّاب ومثقفين عرب لـ«يورونيوز» عن حرب غزة
شهادات كتَّاب ومثقفين عرب لـ«يورونيوز» عن حرب غزة
بينها المصري «رفعت عيني للسماء».. 11 فيلماً في «أسبوع النقاد» ضمن مهرجان كان
بينها المصري «رفعت عيني للسماء».. 11 فيلماً في «أسبوع النقاد» ضمن...
سويسرا توفر ملاذاً آمناً لكنوز أثرية من غزة بعيداً من جحيم الحرب
سويسرا توفر ملاذاً آمناً لكنوز أثرية من غزة بعيداً من جحيم الحرب
مغني الراب الفلسطيني الأصل سان لوفان حمل غزة إلى مسرح مهرجان كوتشيلا
مغني الراب الفلسطيني الأصل سان لوفان حمل غزة إلى مسرح مهرجان ...
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم