عدت من طرابلس بقرار تعييني مدرسًا بمدرسة بنغازي الليلية. بعدما طرقت باب مكتب مدير مدرسة العمال المسائية، استقبلني الأستاذ رجب النيهوم بابتسامته الهادئة، كان يحيط بمكتبه عدد من المدرسين أعرف عددًا منهم. رحب بي. قرأ الرسالة التي قدمتها له. اتسعت ابتسامته ونظر إليّ بدفء واضح وقال: (والله صار منك يا عكروت)! المشكلة كيف يطاوعني لساني وأقول لك: «يا أستاذ ! ولا تزال حكاية (البينسا) ماثلة أمامي ..» ثم التفت نحو الحاجب وسأله: «بالله لما يوصل الأستاذ السنوسي الدغيلي أخبره أنني أريده»، والتفت نحوي: «تفضل يا أستاذ!..» وجلست وقدم لي الأساتذة الحاضرين. وقال لي: «إنني أرى سي عقيلة كل يوم في الجامع. لم يخبرني أنك تخرجت..». كان منزل الأستاذ بشارع نبوس قريبًا من الجامع، الذي أمسى سي عقيلة مؤذنه، ولقد أجبته مسترجعًا حادثة حقيقية، فقلت له: (عندما هنأ سي عوض شمام سي عقيلة بتخرجي، طالبًا منه حفلة بالمناسبة، أجابه: «وراسك يا عويضة.. سأقيم لك وله عرسًا لما يأخد شهادة الجامعة» لم يكن يعلم أنني تخرجت!).
وباشرت العمل. ولقد استفدت من تجربتي كطالب مر بالفعل بتجربة الدراسة المسائية.. فخلقت كل ما من شأنه أن يتغلب على عقبات ظروف تلك الدراسة، وبالفعل كانت سنة ناجحة لي ولهم، وما زلت أذكر حفلاً صغيرًا أقاموه لي من بعد أن تقررت عودتي إلى كلية الطب. بناء على قرار من أول لجنة شعبية طلابية أقيمت بالكلية ترأسها الدكتور مصطفى الزائدي، الذي خاب ظنه فيّ لأنه لم يجدني الموظف المناسب لتلك المرحلة.
كان التململ قد بدأ يحاصرني بسبب انتباهي أنني أنفقت خلال عملي كمدرس مدخراتي كافة، وانتبهت إلى ذلك بصك ارتد من مصرف، كنت قد اعتقدت أن مرتبي كافٍ لاحتياجاتي الشهرية ولم أنتبه أبدًا أن مرتب الخريج كان 128 دينارًا في الشهر، عدت إلى العمل الحر، ما بين مصطفى الكرامي، ووكالة النصر التي كنت قد تخليت عنها كشريك مقابل قيمة إيجار بيتي لمدة سنة.
لم يطل الأمر حتى قامت اللجان الشعبية، وكان أول قرار –خاطئ- أصدرته اللجنة الشعبية لكلية الطب هو قرار إبعاد الدكتور رؤوف بن عامر من عمادة كلية الطب! أما القرار الثاني الخاطئ أيضًا فهو إعادتي مسجلاً للكلية، معتقدين أن سبب تركي العمل هو محاربة الدكتور رؤوف لي، وهو أمر لم يكن صحيحًا، فتركي العمل كان بسبب سوء فهم وضحته فيما سبق، ناهيك أنني اكتشف متأخرًا أنني لا أنفع للقيام بوظيفة إدارية.
قبلت العودة لكلية الطب، لأن رفضها في ذلك الوقت يعني رفض نظام اللجان الشعبية، أو بمعنى أدق نظام القذافي، فلقد بدأ الوجه الحقيقي لتأكيد قوة النظام والقرار. ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت اللجنة الشعبية الطلابية أنني لست الشخص المناسب، ولا أيضًا العميد الأول الذي اختاروه، وهو الدكتور عثمان شميسة، الذي لم يقبل تسيير الأمور بغير تراتيبها الأكاديمية.. ثم تولى الدكتور عثمان الكاديكي عمادة الكلية ولم يستمر طويلاً وتركها أيضًا. وتحينت فرصة ميلهم إلى شخصية تناسب توجهاتهم وقناعاتهم، فأكثرت من غيابي، ولم يطل الأمر حتى كلفوا تلك الشخصية فانقطعت عن العمل من ذلك التاريخ حتى الآن، ولقد أخبرني صديق أنه ما زال ملفي موجودًا ممهورًا بعبارة منقطع عن العمل.
في تلك الفترة قامت حركة إبعاد موسعة لعدد من القيادات الإدارية وتكليف غيرها في إدارة الجامعة، فلقد تم إبعاد كل من الأستاذ أحمد العنيزي، والسنوسي العنيزي، ومحمود شمام، وعوض الشريف، وجبريل الزروالي، وكلف بدلاً عنهم كلاً من إبراهيم بكار وعلى مرسي الشاعري ومحيي الدين البشاري ومحمد حجازي وسليمان العريبي.
غير أن ما حدث من بعد عودتي الثانية لكلية الطب، كان منعطفًا مفصليًا في حياتي، فلقد أبعد الدكتور رؤوف بن عامر من عمادة الكلية، وظل بها أستاذًا لمادة الصحة العامة. وخُصص له مكتب منزوٍ وبعيد، وكنت أراه في ذهابه ومجيئه من وإلى الكلية.. ولم تتعد علاقتنا أكثر من التحايا.
ذات يوم طلبني على عجل الدكتور هادي بولقمة الذي كان حينها وكيلاً للجامعة، فذهبت إليه وما إن دخلت حتى قام من مكتبه وأقفل الباب. وجلس في مواجهتي محتدًا غاضبًا بصوره لم أره بها من قبل، مبينًا خيبته فيّ ونحن اللذان كنا أصدقاء جدًا، قال لي: «لم أفكر يومًا أنك بهذه الأخلاق.. أنا لا أعلم كيف لم أنتبه إلى دناءتك وخستك!»، وظننت أنه يسخر، ولكن عندما أيقنت أنه جاد، انفعلت وقمت مؤكدًا له أنني لن أسمح له بسماع المزيد ما لم يوضح لي أسباب غضبه. أخبرني أنه علم من الدكتور رؤوف أنني محتفظ بجواز سفره، رافضًا أن أمنحه رسالة موافقة الكلية على سفره إلى الخارج. أكدت له أنني لم أر جواز سفره ولم تصلني مكاتبة بشأن رغبته، وطلبت أن يمنحني ساعة أتحقق من الأمر وأعود إليه، وذهبت مباشرة إلى الدكتور رؤوف وعرفت منه أنه سلم الطلب والجواز إلى مكتب الأمين الإداري، وذهبنا معًا وسألت محتدًا إن كان قد أحال إليّ طلب وجواز السفر، واتضح أنه محتفظ به بدرج مكتبه، وعرف الدكتور أنه لا علاقة لي بما حدث.
أخذت الجواز وذهبت مباشرة إلى مصلحة الجوازات كان حينها طيب الذكر سالم الحصين هو مديرها، وكان من رفاق تلك الفترة، أخبرته بما حدث وأنني لن أغادر مكتبه من دون موافقته، والحقيقة أنه أكد أن الدكتور رؤوف فوق أية شبهات، وغادرت مكتبه بجواز السفر المختوم بموافقة المغادرة.
في تلك الفترة كانت تأشيرة الخروج من ليبيا أمرًا غاية في الصعوبة، عدت سريعًا إلى الدكتور بالجواز، وطلبت منه أن يذهب إلى الدكتور هادي بولقمة ويوضح له الأمر. في ذلك اليوم جاءني الدكتور بولقمة من إدارة الجامعة إلى مبني الأدفنتست الذي كان إدارة للكلية، معتذرًا مؤكدًا أنه سوف يقبل عزومة عشاء مني اعتذارًا عما حدث!
انقشعت غمامة علاقتي بالدكتور رؤوف، ولم تمض أشهر حتى اختير بالإجماع وكيلاً للجامعة الليبية، وتولى الدكتور بولقمة رئاسة الجامعة، وكنت حينها قد تركت كلية الطب، وللأمانة جاءني الدكتور رؤوف في بيتي وعرض علّي العمل معه في الجامعة ولكنني أفهمته أنني لا أنفع مطلقًا للعمل الحكومي، فلقد اكتشفت أن خللاً في شخصيتي وليس في الوظيفة. لم يمض وقت طويل حتى جاءني في مكتبي بشارع مصراتة رفقة شخص إيطالي، أخبرني أنه يريد وكيلاً له في بنغازي ولا أعتقد أنني اعرف أفضل منك. وبالفعل عملت مع الإيطالي في مجال تخصصه، وهو توريد وتركيب المعامل العلمية.. وبدأت حياتي بتلك الوكالة، التي كسبت من ورائها الكثير وشيدت البيت الذي حلم به سي عقيلة، ولكنه لم يعش لينام فيه ليلة واحدة.
غير أن مصيبة ليبيا الكبرى ابتدأت بالفعل يوم المولد النبوي بتاريخ 15/4/1973، حيث ألقى القذافي خطاب زوارة المشؤوم فعطل وألغى القوانين كافة. وقرر تطهير البلاد ممن يعارضونه وهم من وصفهم بالمرضى وأعداء البلاد، وأعلن ثورته الثقافية، فنادي جهارًا بحرق كل ثقافة أجنبية بحيث لا يبقى صوت إلاّ صوته، الذي سخّر له في البداية الاتحاد الاشتراكي كأداة نشطة في تنظيم مظاهرات التأييد والمسيرات التي لم تنقطع تلك الأيام، وكان التخلف عن المشاركة فيها إعلانًا برفض سلطة القذافي، ومن ثم تصنيفه عدوًا للنظام فيصبح مطلوبًا لاحقًا.
كان منظمو المسيرات والمظاهرات في الجامعة معروفين. وكانوا أوائل من التحق بالاتحاد الاشتراكي ولم يطل أمرهم حتى تولوا مراكز قيادية في الدولة، منهم من كان دمويًا من البداية، ومنهم من كان انتهازيًا، ومنهم من اقتنع حتى نهاية المطاف بقائده، ومنهم من ظل يتحين فرصه الخروج من تحت مظلته وخرج بالفعل، ومنهم من تورط، ومنهم من ترك البلاد معارضًا أو نافذًا بجلده. كانت مكبرات الصوت تصدح طوال اليوم بالأناشيد، وهذا ما جعل المرحوم محمد القزيري يقول للفاخري في رسالة من رسائله: «في الاتحاد قوة وفي الاتحاد الاشتراكي فايدة كامل»، كانت الكاتدرائية قد حُولت لتكون مقرًا للاتحاد الاشتراكي، الذي فرّق قيامه ما بيني وبين الدكتور رؤوف بن عامر إلى جمع بيننا مشروع اللجان الشعبية.
كان الدكتور رؤوف من أولئك الذين يسكنهم الوطن، مثلما يسكنون فيه، هم الرجال الحقيقيون. إنهم متميزون. يحس المرء أنهم يحملون أوطانهم في قلوبهم، ويتنفسون من خلالها. إن عاشت عاشوا، وإن ماتت ماتوا. وطن هذه النخبة هو ضمائرهم، تمامًا مثلما ضمائرهم هي أوطانهم. إنهم تلك النماذج التي يقف المرء إجلالاً وتقديرًا لها. الشرفاء، فقط، هم الذين يحملون الوطن في قلوبهم ويعيشون منه، وبه، وله. فمَن يدلني على وطن زاهر يخلو من نُخب مخلصة ومتميزة في مجالها، وصادقة في انتمائها؟ الدكتور رؤوف بن عامر نموذجًا من هذه النُخب، فهو قيادي فرض احترامه على كل مَن عمل معه في (السبيتار الكبير) أو مستشفى بنغازي الرئيس، الذي صار اسمه من بعد سبتمبر 69 مستشفى الجمهورية. فهو من أوائل أطباء ليبيا، الذين تولوا إدارته، فيما كانت الراهبات يشرفن على أطقم التمريض. وعندما أودعه النظام الملكي مهمة رعاية أهم بناة الدولة وهم طلبة الجامعة، فأسس المستوصف الجامعي وقدَّم لنا ممرضه المتفاني عطية حسين، ثم تولى المرفق الصحي بالتأمين الاجتماعي. ثم عميدًا لأول كلية طب ليبية.
صباح ذات يوم كنت بمكتبه ننتظر وصول زائر من جامعة برمنغهام، كنا نتحدث في شأن من شؤون الكلية، وفجأة هب واقفًا والتقط مناديل ورقية، واتجه نحو النافذة وأخذ يمسح زجاجها، قائلاً:
- «لقد طلبت منهم يوم أمس أن ينظفوها، ولكن يبدو أنهم نسوا. لا ينبغي لضيفنا أن يرى غبارنا».
هكذا كان الدكتور رؤوف يتابع الأمور الصغيرة قبل الكبيرة، ولعل ذلك هو سبب نجاحه في تأسيس أول كلية طب في ليبيا. أنا شاهد عيان على قيام معاملها في (براريك) خشبية بساحة جانبية بمستشفى (بروزدوشموا) فصارت بعد ثماني وثلاثين سنة جامعة العرب الطبية. انتقاء للكلية في نشأتها نخبة من أساتذة أجلاء، مثلما ينتقى الألماس من بين أكداس الزجاج، فما زال طلبة الدفعات الأولى لكلية الطب يتذكرون الدكتور حسن حمدي، والدكتور علي عبد الله، والدكتور أحمد مرسي، والدكتور إبراهيم حلمي، وآخرين تطول القائمة بهم.
إن الأوطان تفخر برجالها، وهل هناك رجال يفخر الوطن بهم أكثر من أولئك الذين ظلوا يحملونه بين أهدابهم طوال حياتهم؟!
إنني أترحم على روحه ثانية، فبسببه تذكرت باقة من رجال بلادنا، الذين يفخر المرء أنهم جزءٌ منيرٌ من تاريخنا. كنت قد قررت بترحمي عليه مختتمًا ذكرياتي عن جامعتي التي أعتز أنني ممن تخرجوا فيها، ثم عملت بها، وتركتها هكذا، من دون حتى تسوية وضعي الوظيفي، فما زال ملفي حتى الآن ممهورًا بالقلم الأحمر «منقطع عن العمل» بسبب مشاحنة لا تستحق قراري الذي نفذته من 43 سنة مضت، ولا أريد قط أن أدعي أنه بسبب جدل بيني وبين شباب ثوار سبتمبر المُبكرين، فالأمر لم يستحق ذلك كله، وإنما مثلما قلت من قبل، هو عدم توافقي مع الوظيفة، فلا هي تقبلني ولا أنا قبلتها، فلقد تكرر مثل قراري هذا مرات مع جهات مختلفة، والعجيب أنني لم أُنهِ إجراءات الانفكاك الرسمي أبدًا، لم أُنهِ إجراءات الضمان الاجتماعي ولا التقاعد ولا تسوية المستحقات، ولا إجراءات إخلاء السبيل، أترك مكتبي وأرحل، ولكنني ما تركت موقعًا من دون أن أترك به أصدقاء ما انقطعت صلتي بهم قط، لم أترك عداوة أو ضغينة ورائي مع أحد.
وما زلت ألتقي عبد الله الحراثي، وما زالت البهجة والفخر يغمرانني عندما التقي أستاذي وصديقي، ابن بنغازي البار الدكتور محمد فرج أدغيم، الذي ذكرني بصورة الرواد المرفقة، فقد كان جيلي يرى فيهم المثل الأعلى، منهم مَن عملت معه في وزارة تولاها، ثم متعاونًا كمترجم مع مكتبه الهندسي الذي صمم العديد من مبانٍ صارت من معالم بنغازي، وهو المهندس فتحي جعودة، وكذلك الشريف بن عامر، والدكتور منصور بن عامر بكلية الطب، والأستاذ رجب شرمدو في مدرسة الأمير، ومحمد معتوق، الذي عندما لا تعجبه كلمة في مقال من مقالاتي، أجده أمام بيتي موبخًا وموجهًا.
نظيم جعفر تاجر الأقمشة الشهير، صالح الشريف ولد (فيا تورينو) صرة بنغازي، المهندس محمد أحنيش، مصطفى بن زبلح الهلالي الأصيل.، ومَن مِن رفاق الجامعة لا يحمل الود والاحترام للدكتور عبدالمولى دغمان، الذي كان رئيسها عندما وصلناها، والدكتور هادي بولقمة، ومَن ينسى دفء الدكتور الرياضي الكشاف منصور محمد الكيخيا، الأستاذ محمد السعداوية، والدكتور إمراجع الغناي، والدكتور مختار بورو، ومسجل الكلية في عهده مفتاح كعيبة، والدكتور سالم أحمد الشيباني، ورفيقنا المحلل الرياضي فيصل فخري، والأستاذ أحمد القلال، خليفة النعاس، أحمد العنيزي، محمود عوض شمام، إبراهيم بكار، السنوسي العنيزي، وعوض الشريف، جبريل الزروالي، ومحمود العريبي، وعبدالقادر الشعافي، ومصطفى الفراوي، ومَن لا يعرف الدكتور عثمان الكاديكي والدكتور مراد لنقي، وبدر عطية وبورقيعة، ومحمد حسن، وإبراهيم الجيار وأحمد المنفي شهود تأسيس كلية الطب في بنغازي في مطلع السبعينات.
ألا تتفقون معي أن مَن ذكَّرنا بهذا الجيل الرائع يستحق ابتهال الرحمة ومغفرة له ولمَن رحلوا عنا، ويطيل أعمار الأحياء منهم ويمتعهم بالصحة؟!
تعليقات