كان أستاذي الدكتور محمد علي العريان، أحد الذين طردهم القذافي في بداية حكمه، قد جهز لي إقامة معه، وتحصل لي على قبول بالجامعة التي كان أحد أساتذتها، وأوجد لي عملاً بمقصف الجامعة. أغراني العرض، وحلمت بالمعيشة في ذلك العالم المضيء، ولكنني تذكرت سي عقيلة يوم أفرغ ثروته كلها، التي وفرها وأخفاها في طيات حزامه؛ تلك (الشملة الحمراء) التي لا يخلعها أبدًا، تذكرته عندما قال لي: «سافر مع أصحابك إلى القاهرة، واعتبر هذه القيمة سلفه تنفقها في أفراح شقيقاتك»، ثم ضحك بدفء وبهجة واستطرد: «ادفعها لعيشة بنت ابشير لتحيي ليالي حنتهن». وتراءت في عيوني نظرات شقيقاتي المنكسرة عندما ودعتهن يوم رحيلي إلى أميركا، فمات حلمي بالعالم المضيء. ماتت فرحة المفاجأة التي أعدها لي أستاذي الدكتور العريان. وعدت عبر ستوكهولم وكوبنهاغن ثم بريطانيا. تلك الرحلة طرتها بجواز سفري الملكي الفخيم الممهور بالتاج المذهب فوق أرضية سوداء مهيبة، كان جوازًا لا يحتاج إلى تأشيرة.
كان صديقي المرحوم خليفة الفاخري يدرس اللغة في (بورموث). طرقت بابه صباح يوم مشمس من يوليو 1970 بحقيبتين ضخمتين، وجراب يحوي كتب هيمنغواي وجون شتاينبك. تركت أشيائي ثم ذهبنا إلى منزل صديقينا: فرج البراني وعوض المختار. فأصرا أن أمكث معهما فخليفة يذهب للعائلة، التي يسكن معها للنوم فقط. كان المنزل عبارة عن دورين: دور يسكنه فرج وعوض، أما الأرضي فيسكنه محمد اخليف ومحمد التريكي وسليمان الفلاح، فيما كان المرحوم مفتاح الترهوني وكذلك محمود الكيخيا وأحمد شلوف يسكنون غير بعيدين عنهم. لا أذكر تمامًا كم قضيت هناك قبل أن أعود إلى بنغازي، ولكنني أذكر أن الفاخري كتب في تلك الأيام مقالته الشهيرة: «لا تجري أمام الكلاب» بعد مقال «تعويضه» مباشرة.
في تلك الرحلة تحديدًا بان على الفاخري من الداخل، من دون تأثير شخصيته المرحة وقدرته العجيبة على الاستظهار ورواية الشعر وعشقه للحياة، حينها كنا شبابًا، رمانًا قبليًّا شاعثًا في عاصمة اندلعت فيها ثورة جنسية لم تقلب موازين بريطانيا المحافظة بفكرها الفيكتوري فقط، بل امتدت لأوروبا كلها، وعلى الرغم من مغريات تلك الحقبة التي انغمسنا جميعًا فيها، كان لجلسات العشية الغابقة بروائح القهوة والحنين إلى بنغازي فضلٌ كبيرٌ في معرفتي المبكرة إلى الجانب الصوفي المتجذر في روحه، الذي لم ينتبه إليه سوى قلة من رفقائه. بانت لي أيضًا مثابرته وسعيه نحو الكمال في سلوكه وعلاقته بالآخرين وبالتأكيد في كتاباته. كان يؤكد أنه لا قيمة لما يكتب الكاتب ما لم تكن أخلاقه نقية وحقيقية، متوافقة مع مُثل وقيم الحياة من صدق وشرف وحق وشجاعة واحترام الروح التي أودعها الله فينا. كان يسعى للكمال في سلوكه وكتاباته. وأثناء إقامتي هناك زارنا صديقنا عمر جعاكة، والكابتن فيصل الفيتوري، والصديق عمر الساحلي الذي لم نلتقِ منذ تلك الأيام. وكدت أعود إلى بنغازي بزوجة نرويجية! ولكن الفاخري قال لي: «البنت (قرجة) ألم تنتبه إلى مخارج نطقها للحروف؟!»، ثم أضاف ساخرًا: «الزوجة مزعجة وهي تصدح مثل كناري، فما بالك بقرجة ولا تعرف لغة أهلك، تخيل فقط عندما تستفرد بها عجائز شارع نبوس؟!» وعدت إلى بنغازي من دونها، ليس لأنها (قرجة) ولكن لأنها تريدني أن أكون معها في النرويج. وأنا أريد أن أكون مع وافية وسي عقيلة.
وزعزع ما رأيت في رحلتي إلى أميركا قناعتي وهمتي، وأفنيت شهورًا قلقًا شاردًا، خصوصًا بعدما مضت أيام الترحيب بي، وسماعهم لمغامراتي الحقيقية، والخيالية أيضًا! وما يجري في أميركا التي كانت وقتها حلم الشباب، فلم تكن مفتوحة لنا قبل عهد القذافي، إذ كانت أغلب البعثات الدراسية موجهة إلى بريطانيا، تليها ألمانيا ثم إيطاليا وبالطبع مصر.. لكن في بداية عهد القذافي كادت البعثات الدراسية تكون مقتصرة على أميركا!
قلقي كان بسبب رغبتي في المعيشة في أوروبا أو في أميركا، مع استحالة ذلك بسبب وضعي الأسرى، وكان يتحتم اتخاذ قرار حازم.. ولم يطل الأمر حتى اتخذته.. وهو أن أدق قدماي، كمسمارين، في بنغازي تحديدًا.. ويكون الغرب بالنسبة لي مجرد واحة للراحة ! وأي شيء أكثر قوة من زوجة وأطفال يوثق بهم المرء قدميه في مكان محدد، خصوصًا إن كانت الزوجة موثقة هي الأخرى بذلك المكان وتستحق ذلك، ولقد أثبتت لي الأيام أنها كذلك.
قبل سفري إلى أميركا، التقيت في الجامعة بزوجتي الأولى، كانت طالبة بالسنة الأولى وكنت بالسنة الثانية، وهي مثلما ذكرت في بداية هذه السيرة تلك الطفلة التي أخبرتني عندما شاهدتني أدق باب المرحوم محمود بوهدمه لتخبرني، أن ابنه عبد العزيز هناك في ملعب الكرة.. ولقد وجدت فيها ما يبتغيه الشاب، القانع الذي يريد رفيقة مخلصة محبة، مدبرة. وانتهت أشهر المراسم والكر والفر، وصعوبة التعامل مع سيدة ليبية رحل شريك حياتها وترك لها مسؤولية خمس فتيات، فكانت لهن أبًا وأمًّا وأخًا وأختًا وحارسًا صعب المراس. لم تكن مقتنعة تمامًا بزواجي من ابنتها ، فماذا بمقدور شاب لا يملك مسكنه، ويعيل أسرة كبيرة، ومازال طالبًا، ولكن الأمور والنوايا الحسنة، والمحبة التي جمعتني بها سخرت الأمر سريعًا. فلقد تسلمتُ تقاعدي الاختياري، وكنت قد اشتريت بالتقسيط قطعة أرض برأس عبيده، مشارَكة مع صديقي إبراهيم الربع، الذي صار فيما بعد صهري فبعت حصتي، وأقيم الفرح فوق سطح بيتنا، بشارع شمسه، وتنفيذًا لرغبة سي عقيلة وإصراره إن تحيي ليلة الفرح المطرية (عيشة بنت ابشير)! فذهبت إليها رفقة المرحوم محمد الباز، ومحمد الترهوني وعندما علمت أن الفرح فوق سطح المنزل، اشترطت أن نحضر لها نقالة، يعني (باريله) تكون بمثابة محفة نرفعها بها إلى السطح، وعندما جئنا بها للمنزل، وكان والدي رحمه الله يعرف أنها قادمة انتظرها في مطلع السلم.. واقبل نحوها مهللاً: «عويشة! مرحبتين» فأجابته : «من.. عقوله؟ إن شاء الله العريس ولدك؟».. فزغردت، وأمسك بيدها وهي جالسة على المحفة، وكانت سيدة بدينة للغاية، فيما يتصبب عرق المرحومين محمد الباز ومحمد الترهوني وهما ممسكان بطرفي (البريلا) وظلا (عويشة وعقولا) يحكيان طويلاً، فيما يترنم محمد الباز بأغنية محمد صدقي الشهيرة، آنذاك: «طيرين في عش الوفاء» إلى أن نهرتهما والدتي التي يبدو أنها غارت من حديث الذكريات بين (الطويرين).
وتفنن محمود شمام في تنظيم عراسة الأصدقاء، فقد اختار كوخًا لعائلة صديقي عوض شمسه، بشط قاريونس، عندما لم يكن هناك عمران ولا طرق تقودك إلى شاطئ البحر، ودعا عدد من فناني ومحبي الغناء الشعبي.. وصار يدعو كل مَن يراه من معارفنا لحضور العرس مستخدمًا وسيلة الوصول إلى كوخ الحفلة بطريقة تعلمها من الكشاف.. كان يقول لمَن يدعوه: «اتبع خطًّا من الجير من حافة الطريق الفلاني، وسوف تصل كوخ وخيمة الفرح..». كان قد سكب من بداية الطريق حتى مكان الحفلة أكثر من ثلاث (شكاير جير أبيض) وكانت ليلة خميس.. فتجمع عدد هائل من سكان بنغازي: طلبة من الجامعة.. بحارة.. تجار.. طيارين..وعدد من الإنجليز كانوا يدرسونني، استعرت بيت (غراهام جون) الذي هيأته (مسز باركلف) أستاذة النثر وفرشته لاستظافتي ليلتين لأنني كنت موفدًا للدراسة الصيفية في بريطانيا.. فلقد قرر أستاذنا الكبير الهادي بولقمة رئيس الجامعة آنذاك.. أن ترافقني زوجتي على حساب الجامعة، بل وافق أن أعدل مسار الرحلة بدلاً من بنغازي - لندن إلى بنغازي – امستردام، ثم لندن، بناءً على اقتراح صديقنا توفيق التاجوري الذي كان حينها ممثل شركة (KLM) الهولندية وقام بالإجراءات المطلوبة، وكان مسار الرحلة عبر طرابلس، وفي طرابلس استقبلني وفد من شلة النادي الدولي.. عبد المجيد خشخوشة والهادي السويح والتهامي شعبان، بباقة ورد على سلم الطائرة. كانت رحلة (عيد وقديد).. يعني دراسة وشهر عسل. لم يبخل أحد علي بما يستطيع من سفرى حتى عودتي.
تعليقات