من بعد الدروس المركزة التي تبرع بها أستاذ الشعر، مستر جونس، التي استمرت بتركيز رهيب منه، صرت من الطلبة البارزين وكان هناك طالبان فلسطينيان وصلا الجامعة الليبية بخلفية تعليمية إنجليزية فكانا الأبرز في القسم، وكان هناك طلبة مجتهدون للغاية منهم هاشم صبري ومصطفى الرايس، وفتح الله خليفة وأمال التاجوري، كانوا يأتون مباشرة من بعدهم، مع قناعتي التامة بأن عبد المجيد الدرسي كان أفضلنا وكنت أراه يأتي مباشرة بعد الفلسطينيين، ذلك بسبب خلفية دراسته الابتدائية، فلقد كانت اللغة الإنجليزية تدرس من السنة الخامسة الابتدائية وكان قد لحق بذلك النظام، ولولا تقاعسه، وأيضاً أمور أخرى يصعب ويطول شرحها، لأصبح الآن أحد أساتذة قسم الإنجليزي بالجامعة.
لقد بذلتُ جهداً في تلك السنة مازلت ممتناً به ، فلقد جئتها من دون مستوى في اللغة الإنجليزية وخرجت منها بتقدير جيد، لم يسبقني تلك السنة سوى قلة من الرفاق. هذا التقدير كان يعني أنني من جماعة المقدِّمة. وانتهت تلك السنة، التي كاد عبد المجيد ألا يتممها، فلقد بلغت حالة الانفتاح سنة 1968 مداها، ناهيك عن اختياره ضمن أربعة اجتازوا مسابقة وامتحاناً ليصبحوا أوائل مذيعي التلفزيون الليبي في تلك السنة وهم: مع عبدالمجيد الدرسي، أحمد أنور ومحمد الفرجاني، أما لؤي بوغرارة، فقد واصل مسيرته الإعلامية وتفرد في تخصص آخر. لقد تزامنت فترة بدء عبد المجيد الدرسي كمذيع تلفزيوني مع تفرده بامتلاك سيارة «مارك تو، السبورت» البيضاء ، التي خصصتها له شركة «تويوتا» التي كان مدير مبيعاتها في ذلك الوقت في بنغازي، فصار نجما ليس في بنغازي فقط ولكن في القاهرة أيضاً، فما أن تتوافر لنا عطلة تزيد على ثلاثة أيام، حتى ننطلق إلى القاهرة ولا نقف إلا أمام «الأبورج» في شارع الهرم وهناك نلتقي بثلاثي أصبحو أصدقاءنا: الراحلين عادل أدهم، يوسف شعبان، رشدي أباظة. أما صديقي الذي احترمته كثيراً لشهامته، عندما تولى حراس أمير سعودي ضرب الممثل الكوميدي الناشئ في ذلك الوقت؛ عادل إمام، في صالة الشيراتون ووقف الحاضرون يتفرجون وسط بهجة هذا الأمير الذي لا أذكر اسمه، انطلق صديقي كسهم رغم كبر سنه واستطاع أن يخلص الشاب من بين أيديهم، وهو يصرخ ويقاومهم مقاومة رجل شجاع إلى أن تولت الشرطة الأمر، ثم اليوم كتب الحادثة في أسطر قليلة بجريدة الأهرام. ومنها احترمته كثيراً، إنه المطرب الشعبي محمد عبد المطلب، الذي لم أغب عنه كلما زرت القاهرة، لعل هذه الحادثة سنة 1970 أو 1971 على الأكثر.
سنتي الثانية بالجامعة كانت ثرية للغاية وعلى الرغم من كل مغامرات الشباب وطيشه، بذلت جهداً كبيراً، وكان للدكتور محمد فرج أدغيم فضل كبير في توجيهي ومساعدتي، ففي تلك السنة كان أستاذاً لنا في مادة الترجمة، ارتبطت أيضاً بصداقة مع أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية وكان شاباً مندفعاً أصبحت شقته في عمارة وهبي البوري كنادٍ لي ولعبد المجيد، وكثيراً ما التقينا بمغتربين بريطانيين يعملون في بنغازي، فأصبحت وكذلك عبد المجيد عضوان في فريق (الدارتس) وحفلاته.
لم يخطر ببالنا أن سنتنا الثانية تحديداً هي بداية لانحدار مستوى الجامعة اُستهلت بطرد عدد من أساتذة ودكاترة الجامعة. ومنها لم يعد أمامي سوى الإصرار على إتمام سنواتها الباقية، التي تزامنت مع وضع ليس مريحاً على الإطلاق، فلم أعد مجرد طالب وعائل لأسرة واحدة بل أسرتين. وكان في متناولى مباهج الشباب كلها.
كان اهتمامي منصباً على ما أجنيه من الدكان لأنه أصبح مصدري الوحيد لمعيشة أسرتي، لم تبخل علي إدارة الأشغال بالمساعدة التي وصلت حد التغاضي عن غيابي، فلقد كانت الإدارة فخورة بعدد من موظفيها بلغوا المستوى الجامعي، منهم جمعة الفلاح، يوسف بن غزي، إبراهيم الربع، عياد العنيزي، يحيى المعداني، محمد العلام، العبد لله. ولكن جماعة رجال الأعمال، التي أصبحت منها كان لهم وضع آخر، وجدتني جزءاً منه.
حتى سنتي الثانية، التي ابتدأتها في عهد القذافي، كانت مجلة «قورينا» متنفساً لطلبة كلية الآداب، وكانت جمعية «شكسبير» لنخبة ترى أن الحل عند الغرب، ومجلة «كشاف بنغازي جيل ورسالة» التي يشرف على إصدارها نخبة أذكر منها سعد نافو، أحمد أنور، سالم الكبتي، عز الدين بوغرارة، وآخرين يقومون بدور تنويري كبير. وتصدر في بنغازي صحف عديدة، منها: «برقة» و«العمل» و«الرقيب» و«الزمان» و«الشعلة» و«الريبورتاج»، أما جريدة «الحقيقة» فكانت الأكثر توزيعاً. فعدد يوم السبت ينفد بمجرد وصوله إلى منافذ التوزيع بسبب مقال صادق النيهوم، أو خليفة الفاخري الأسبوعي. وكان من أبرز كتّابها: أبوبكر الهوني، محمد علي الشويهدي،سيد قذاف الدم، أنيس السنفاز، عبد المولي دغمان، أمين مازن، علي فهمي خشيم، داؤود حلاق، عبد الرازق بوخيط، سالم قنيبر، محمد المسلاتي، سالم الكبتي وحميدة البراني، ونخبة من صحفيين عرب أبرزهم سمير عطا لله، وبكر عويضة. ولعل محمد الشلطامي وعلي الفزاني وخالد زغبية هم أبرز شعرائها وكثيرون آخرين أثروا ستينات القرن الماضي بثقافة جعلت من بنغازي عاصمة لها. لم يكن لي هدف حقيقي في ذلك الوقت أكثر من الخروج من دائرة الفقر التي تحيط أسرتي كثيرة العدد، كنت أريد وافية مكة، ويرى سي عقيلة مدينة غير بنغازي، وأن أحقق أمنيته في أن تحيي الفنانة، عيشة بت أبشير، أفراح بناته.
وتزامن ذلك الحال مع الطفرة التي واكبت قيام ثورة سبتمبر، فلا أحد ينكر أن المصارف، التي تاممت سريعاً وصارت ليبية فتحت أبوابها لكل من يحتاج إلى رأسمال للعمل، خصوصاً في مجال المقاولات، وتحديداً العسكرية، فلقد أُقيمت العديد من المعسكرات المسلحة وكانت ثغرة ثراء لكل مقاول وصل الأشغال العسكرية عبر أحد ضباطها. زد على ذلك فكرة القذافي الجهنمية التي تمثلت في مشاريع التطوير العمراني المبكرة، وحث البنوك على تمويل كل من يملك قطعة أرض ويريد بناءها، وبالفعل أخذ الناس يهدون مساكنهم التقليدية البسيطة ويشيدون فوقها العمارات بالعديد من الشقق، ولم يخطر على بال أحد تخطيطه لتطبيق فكرة البيت لساكنه، ولقد صاحب ذلك كله مشاريع البنية التحتية من أعمال الصرف الصحي والمياه، والطرق. ذلك كله فتح الأبواب أمام أعمال التوريدات العامة، والعمالة واحتياجاتها.
كانت تلك السنوات المبكرة من بعد ثورة سبتمبر فرصة لكل من يريد أن يجنى مالاً. الكثيرون جنوه بحق وبعرق وأمانة وكثيرون جنوه بمختلف السبل. لقد عايشت ذلك كله وما أن شرعت في الكتابة حتى ضمنته واحدة من روايتي وهي «تمر في سيوه ولبن في قرقارش» أحداثها هي خلاصة ما حدث في ليبيا في السنوات الأولى من بعد قيام ثورة سبتمبر.
خلال هذه الطفرة قرر آل قطيش هد مبناهم، حيث قهوة سي عقيلة، وكان لازماً أن أسلمه لهم، فلم يكن حينها قد بدأت ثقافة «خلو الرِّجل»، وكان لزاماً، أن أبحث عن منفذ آخر.
تعليقات