اجتزنا السنة الأولى، التي رافقتنا بطولها بهجة الشباب باختلاط حضاري، كان أهالينا يعتقدون أنه أمر خطير، فهم كانوا من زمن العباءة التي لا نرى من المرأة التي ترتديها سوى عين واحدة، أما المتعلمات فكانت (البيشة) تلك القماشة السوداء التي تغطي الوجه، التي أخذت ترفع باطراد من على وجوه الفتيات، وبدأ الوشم يختفي وأخذت مظاهر التمدن واضحة في أروقة الجامعة. لم تسجل طوال فترة دراستنا كلها مأخذًا واحدًا أو تطاول أي مما كان يعتقد أنه قد يحدث من جراء هذا الاختلاط، ولكنه مع ذلك كانت مرحلة حب عذري وهيام لا يباح به، إلا على ورق كشاكيل المحاضرات، كأشعار ساذجة أو رسومات رمزية. ولكن انتهت الكثير من تلك المشاعر برباط مقدس ما زلت أعرف تواصل العديد منه حتى الآن.
كانت الجامعة الليبية كعادتها السنوية توفد المتفوقين والنشطاء برحلة إلى خارج المملكة. وكانت رحلة السنة التي سبقت وصولنا الجامعة إلى المغرب، عاد منها الطلبة بمعلومات، وأغانٍ جديدة لم نكن نعرفها. محمود شمام عاد بأغنية عبد الوهاب الدوكالي «كتعجبني» ومنها انتبهنا إلى طرب ذي نكهة تختلف عما اعتدناه. ولم يطل الوقت حتى صارت أغاني «ناس الغيوان» كنشيد يومي للشباب. انتبهانا إلى الموسيقى والطرب المغربي، وأخذنا به فكان على نحو ما هروبًا من الجرح الذي تسببت فيه نكسة 67 وارتباط الطرب المصري بالثورة والقومية العربية، بحسب ما طلع به علينا عمالقة الطرب في ذلك الوقت، فأحسسنا كما لو أنه هو المسؤول عما حدث. لقد هربنا إلى إيقاعات وألحان جديدة لم ننتبه إليها من قبل.
سنتي الأولى بالجامعة ارتبطت أيضًا، بأول ثروة حقيقية قبضتها في حياتي. ما أن بدأت تهاليل الرخاء والمال تحف بحكومة المملكة الليبية، حتى تنوعت مصادر الاستعانة بالخبرات البشرية العالمية، لم يعد الأمر يقتصر مثلما كان أيام الإدارة البريطانية على الخبرة الإنجليزية، ولا خبرات النقطة الرابعة الأميركية، مصر هي التي لم تغب أبدًا لا في مجال التعليم ولا في الصحة والعاملة الفنية، ولكن الدولة انفتحت على العالم كله، فكان هناك مهندسون ومساحون ورجال أعمال من لبنان وسورية وتونس، باختصار شديد انفتحت ليبيا على العالم كله بما في ذلك دول الاتحاد السوفياتي: يوغسلافيا، تشيكوسلوفاكيا، بولندا وغيرها، بل وصل الانفتاح الصين، فلقد كان معنا بوزارة الأشغال مهندسون من الصين، أحدهم كان في قسم المياه، عمل مع مستر آدم كبير مهندسي المياه، الذي عملت معه سكرتيرًا، أو في الحقيقة مرافقًا، مهمته حمل حقيبته والإنصات، ومحاولة دائمة لفهم ما يقول، وأهم مهماتي هي مرافقته في رحلاته الشهرية إلى الجبل بعدما ابتدأ العمل في مشروع الدبوسية لنقل المياه منها إلى طبرق، وكان يتحتم المبيت ليالي بمختلف مدن الشرق الليبي، ووجود شاب معه، وهو رجل تجاوز السبعين عامًا أمر مهم، فيظل باختصار خادمًا مرافقًا. والواقع أنه كان شخصية محترمة ويرعاني بالفعل كما لو أني ابنه.
الصيني مستر (كيم) صار مساعده، وأصبح صديقي، فلقد كنت مترجمًا له وهو يبتاع ما يريد من سوق شحات أو درنة أو القبة. ولأن شكله صغير فكان يبدو في مثل عمري، ولكنه كان متزوجًا من صينية مثله ودعاني مرة أو اثنتين إلى منزله.
ودعوته بالتالي إلى مطبخ الحاجة وافية، ولم تدعُ له أن يميته مسلمًا. ولقد أعجب جدًّا بالمقطع بالقديد حتى طلبه مرة ثانية وأحضر معه زوجته، التي لم تدعُ لها أيضًا أن يميتها مسلمة. ولكن (المستر كيم) لم ينهِ عقده مع وزارة الأشغال بسبب انتهاء عقده، ففي رحلة من رحلاتنا إلى الدبوسية، يبدو أنه اكتشف أمرًا ما في بيته، فقرر إنهاء عقده، نكاية بزوجته حتى تعود معه. كان لزوجته سيارة «فيات 500» كانت معروفة في ذلك الوقت وسألني كم عندي من المال فقلت له: «لا شيء»، فقال لي: «إن عرفت أن تستلف 150 جنيهًا سوف أبيع لك سيارة زوجتي!» .
وبالفعل تمكنت من بعد مساعدة إبراهيم الربع وعمر بن حميد وعدد من رفاق قهوة سي عقيلة من تجهيز المبلغ، وأصبحت لى سيارة كدت أدخلها البيت بدلاً عن الدراجة (القوماقروس) ولم يطل الأمر، من بعد دروس في القيادة تولاها مختاز أبزيو وعبد الكريم الفقي، تحصلت على رخصة قيادة رقمها 4182. ولم يطل الأمر حتى تعلم أصدقائي قيادتها، فلقد كانت تعمل بأي مفتاح يدخل ثقبها، وأصبح امرًا عاديًّا ألا أجدها أمام البيت، فما هي إلا سويعة وأراها تتهادى من نهاية شارع نبوس أو قادمة من شارع عمرو بن العاص الذي كان السير فيه من اتجاهين.
وبلغ أمرها أن أخذتنا في رحلة إلى درنة، العبد لله وعوض الطريدي وعوض شمسة، معتمدين على الميكانيكي البارع عبد السلام البراني، فيما كانت البقية في سيارة (فوردينا). وانتهى أمرها من بعد أن صدمنا عربة محملة بالمرمر من بعد عودتنا رفقة محمد الباز وعمر بن حميد الذي كان يقودها من (كامبو الأميركان) عند مدخل بنغازي الغرب.
في سنتي الأولي، كان عليّ أن أقوم باكرًا، وأذهب إلى الفندق البلدي لشراء خضراوات للدكان، واكتري لها (كروسة) وأفرغ حمولتها في الدكان، وأنطلق إلى بيتنا القريب من الدكان؛ أصحي شقيقي عبد القادر، وأستعد للذهاب إلى الجامعة. لم يكن لدي حينها سيارة. وكان مكتب عبد الله السوسي في عمارة الجبل الأخضر، بمثابة استراحة لنا فما أن ننتهي من محاضراتنا حتى نتجه إلى مكتبه، ذلك إن لم يأخذنا مصطفى الكرامي إلى مطعم الحديقة. في تلك العشية الرمضانية وجدت عنده صديقنا ريمون اللبناني، الذي كان شريكًا بمطعم شهر زاد الشهير في ذلك الوقت بميدان الكنيسية. كنتُ قد أعددت لريمون مناقصة لتمويل شركة نفط، بعدما وجدت له الأسعار المتداولة، وأيضًا أسعار الخضراوات وتجارها المعروفين في الفندق البلدي وطبعتها بحسب الصيغة المطلوبة، وذهبت معه إلى الشركة والتقيت أحدًا من معارفي، وسلمنا المناقصة. ولقد فرحت عندما أخبرني أن المناقصة رست عليه، وما كان منه إلا أن قدم مظروفًا قال لي إنها أتعابي وإن عبد الله ساعده في تقديرها، والحقيقة لم يخطر ببالي أبدًا أنني سأنال أتعابًا عما فعلت، أخذتها منه وقلت له، مداعبًا، المثل اللبناني المتداول: «شعرة من إبط الخنزير بركه»، وشكرته واتفقنا أن نلتقي في المساء. كان المبلغ ألف جنيه، وهو مبلغ لم يتوفر لي مرة واحدة من قبل.
في الطريق فكرت أنني لو التقيتهم في المساء سوف يضيع المبلغ على غير طاعة الله. خطر على محمد إبراهيم السوسي الذي ما أنفك يعمل بكل السبل على تسويق سيارات الـ«تويوتا» في ذلك الوقت، وكنت تعرفت عليه في زيارة من زياراته لبنغازي، ولما عرف أنني دون سيارة، عرض عليّ سيارة بالتقسيط.
مررت على البيت والتقطت قميصًا أو اثنين وانطلقت إلى المطار. في المساء كنا نتعشى، معًا بعد أن أخبرته عن غايتي. وضحك وفسر قدومي إليه كعادته، بالغيبيات وبالنصيب وبإحساسه أن سيارة الـ«كرولا» هي الوحيدة التي وصلت مع آخر دفعة كانت (ستيشن)، يعني بمؤخرة تنفع للنقل، وهي أول سيارة من نوعها، وأنه متأكد أنها مقسومة لشخص يستحقها، وأن فلوسه حلال وكنت بالفعل في حاجة إليها وفلوسي حلال جدًّا.. كان ثمنها يقل قليلاً عن الألف التي سلمتها له.
اليوم التالي أتم إجراءات تسجيلها وعبأتها برتقال (بيلا دونا)، ومساء اليوم الثالث، كانت أمام بيتنا بشارع نبوس، فزغردت وافية، التي لم تكن حاجة في ذلك .
تعليقات