Atwasat

عصا الزيتون

سالم العوكلي الأحد 13 مارس 2016, 10:34 صباحا
سالم العوكلي

في لالي، القرية المتناثرة البيوت على ضفاف الوادي، الذي تجري به مياه ينابيعها العذبة فتروي أشجار الكرْم والعنب والتين الشوكي المشاعة للعابرين والمقيمين، افتتحت المدرسة الابتدائية الجديدة عام 1966م، وفيها كانت علاقتي الأولى مع قلم الرصاص الذي كان يرتعش في يدي من البرد والرهبة.

أبخرة الصقيع تتصاعد من أفواهنا أمام لوح السبورة التي يضيئها الطباشير بحروف الأبجدية الأولى. أذكر جيداً مشهد طلاب فصلي وهم يرتعشون من أقدامهم حتى رؤوسهم حين دخلت سيدة بتنورتها السوداء القصيرة وحذائها ذي الكعب العالي وشعرها المرسل على كتفيها، كانت السيدة فتحية عاشور مديرة التعليم بمحافظة درنة الممتدة حدودها من المرج إلى بوابة ليبيا الشرقية، وهي التي أمرت المعلم والمباشر بأن يوقدا كانون النار في الفصل طيلة أيام الشتاء.. وقتها كان القائمون على التعليم والمفتشون دائمي الزيارة لفصل لا يتجاوز عدد الطلاب به العشرة رغم قلة المواصلات وصعوبة الطريق، وكانت المدرسة تقدم لنا كل شيء، الأقلام، الكراسات، الكتب، ووجبة الإفطار، مجاناً، وما كان على أهلنا سوى أن يلبسونا ما أتيح من قماش، ويصنعوا لنا حقائب من بقايا أكياس الطحين، ويطلقوا الأدعية بالتوفيق في إثرنا.

شكل المعلم القاسي الذي يسلمنا لنزواته أهلنا، ويباركون ضربه لنا، أحد تجليات السلطة الأبوية التي لا يمكن التساؤل بشأنها أو الجدال معها، لكن دخول تلك المرأة الأنيقة والجميلة إلى فصلنا، وملاحظة الخوف الذي اعترى المعلم شكل أيضا هشاشة هذه السلطة وتصدعها أمام عيوننا المندهشة. ارتبطت لدي تلك المرأة بالدفء، غير أن هذا الارتباط ليس جديدا، باعتبار أن الأم طالما انبثقت من أصابعها شرارة النار الأولى التي كانت تُقوم أصابعنا المنكمشة بفعل البرد، لكن الجديد أنها شكلت لنا إمكانية انهيار السلطة المطلقة للمعلم أمام الحنان حين يكون مرفودا بالمؤسسة وبالثقة في الذات.

كان الجميع رغم بطء الحراك يستطعمون نكهة الوطن في أفواههم ويرون المستقبل كله في أولادهم وهم يحملون الحقائب إلى المدارس

في العام التالي انتقلت إلى مدرسة القيقب الابتدائية، وكان المشهد هذه المرة مختلفا، فالقلم ثبت بعض الشيء في يدي، والزحام كان أكثر. طلاب وطالبات، فصول ممتلئة، وأولاد أكثر جرأة وشقاوة، ومعلمون كثر، ومباشر المدرسة هذه المرة المحنك في علاج الكسور كان نحاتاً دقيقاً لعصي المدرسة التي يصنعها من أغصان الزيتون، تلك العصي النحيلة التي كانت ترتفع وتهبط كل وقت على أيدي الطلاب، وكم كنت أستغرب ربط المعلم في الدرس بين الزيتون والسلام وأنا أرى الغصن القاسي في يده.

كان الضرب فضيلة التعليم ومن يشكُ لأهله عليه أن يكون جاهزاً لعقاب آخر، وسادية المعلمين الأوائل؛ التي وضعت تحت باب الحرص، ظلت محل إطراء حتى الآن، وبذا كان الشق التربوي هو تدريبنا على الخنوع التام والخوف، لنكن جاهزين للتلقين والحفظ والتسميع.

كان شهر أغسطس القائظ يعني اقتراب نهاية موسم الحصاد، ومن ثم الدراس وجمع الغلة لتسويقها، وكلما أسرعنا في إنهاء هذه الأعمال كانت فرصة بيع المحصول أقوى، لأن مخزن الحبوب بالقرية سيمتليء ويتوقف الشراء، وهو المخزن الذي أصبح خاويا ومسكنا للطيور بعد أعوام، حين حول النفط الكثير من المزارعين إلى عمال بمرتبات شهرية وأصبحت معظم الأراضي بورا أو مرتعا للأغنام، وبعد سنوات أخرى أصبح مخزنا للقمح والشعير المستورد، الذي يتزاحم على شرائه من كانوا يصدرونه، ومن هنا كانت سياسات الجمهورية تتضح مرارا عبر تحويل جل الليبيين إلى أجراء ينتظرون رواتبهم آخر الشهر، تلك الرواتب التي تحولت إلى ما يشبه الهبة التي يمنحها القذافي لرعيته، وكان تحويل المواطنة إلى رعية إحدى سياسات نظام لا يريد أي نوع من الاستقلالية أو النشاط الخاص أو الإنتاج الذي يكرس مفهوم المواطنة، لأن المواطنة تعني الحقوق والمشاركة، ولأن الإسهام في اقتصاد الدولة سيعني التدخل في سياساتها.

كان اليوم يوم اثنين وكنت منتقلا من السنة الثانية ابتدائي إلى الثالثة، أغسطس بحره اللاذع ينتهي ونحن نصفي المحصول من الشوائب مستعينين بأنسام الصيف المعتدلة التي نسميها ريح العون، حين رأيت أبي مضطربا، وعلى سحنته موجات غضب، لم تكن من عادته حين يبدأ القمح الذهبي يلمع فوق الأرض الصخرية، باعتباره كنز الموسم الذي سيسدد ديوننا طيلة عام كامل.

كان الراديو المغلف بغطاء جلدي بني بجانبه، وهو يعلن عن انقلاب على النظام الملكي، ونتيجة لحب أبي للملك الذي يحتفظ بصورته وولي عهده في الجزء الداخلي من صندوق ( السحارية) كانت علامات الحزن تظهر بقوة على وجهه، الملك الذي كانوا يحلفون به في جملة سجعية تقول: وحق سيدي إدريس.. طلاق المحابيس، وتلك السلطة الروحية التي اكتسبها عبر ورعه ومظهره وما قدمه لهذا المجتمع الذي انتقل من مجتمع يحارب الجرب والرمد والقمل وسوء التغذية إلى مجتمع يتأسس من جديد وفق سياسات تطال المدن والقرى وحتى الخلاء.

كان الجميع رغم بطء الحراك يستطعمون نكهة الوطن في أفواههم، ويرون المستقبل كله في أولادهم وهم يحملون الحقائب إلى المدارس، فأصبح العلم هو الخيار الاستراتيجي في ذلك الزمن من أجل النهضة والمستقبل، وكان التفوق تأشيرة كل طالب ليشق طريقه نحو مزيد من العلم ومزيد من الترقي، لذلك تجد طلابا من قرى أو نجوع نائية يذهبون فجأة للدراسة خارج ليبيا، طلابا من عائلات فقيرة لا نفوذ لها ولا واسطة سوى المجموع الذي تحصل عليه في الشهادة الثانوية، وأفق واسع يتفتح لمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص، لتصبح الدراسات العليا والإيفاد مرتبطا بعضوية اللجان الثورية بعد الانقلاب، ومرتبطا بعضوية حزب العدالة والبناء بعد سقوط النظام السابق.