Atwasat

رسالة من لندن3

جمعة بوكليب الأحد 23 مارس 2014, 03:39 مساء
جمعة بوكليب

أزعل جدًّا حين ترفض "أمولة" بنتي، بعنادها الطفولي، مرافقتي إلى محلات "تسكو سوبر ماركت" بغرض التسوق الأسبوعي الذي تعوَّدنا عليه كل يوم أحد. مبعث "زعلي" أنني على خصومة مع محلات السوبر ماركت؛ لأنني أشعر فيها بالوحدة كأشد ما تكون.

بعكس الحال في الأسواق الشعبية التي تختلط فيها الأصوات وتستجيب الروح جذلى إلى دفء التزاحم والتنوع في الإيقاع الإنساني، الواحد منَّا في أي محل سوبر ماركت -كبيرًا كان أو صغيرًا- على حاله. يمسك سلة بيده كان أو يدفع بيديه عربة تروللي وعيناه معلقتان تتابعان ما صُفَّ على الأرفف من بضائع، لكن لا يسمع صوتًا و"مفيش من يعدل عليه"، ولا أحد يتابع بقصد أحواله، "ومفيش حد يحكي معاه" أو حتى يتخاصم "معاه". من أول أن تعتب رجلاك عتبة البوابة الآلية الأمامية للمحل، إلى غاية ما تكمّل قضيتك، وتطلع، والدنيا كلها من حولك "هس بس يا حسين".

وحين ترفض "أمولة" أن ترافقني، أعلم أن رحلتي إلى السوبر ماركت لن تتجاوز أن تكون بمثابة مونولوج داخلي ممل، وقد يكون مكلفًا ماديًّا. رفقة "أمولة" تعني أنني منذ بداية الرحلة وحتى عودتنا إلى البيت منخرط في عملية تواصل وحوار وتعلم إنساني. رفقة "أمولة" لي إلى محل السوبر ماركت ضرورية مثل ضرورة الحرص على فتح كل نوافذ الروح الإنسانية لتدخلها الأضواء والظلال من الاتجاهات كلها لتزداد خصوبة في تنوع الخيال.

الأسواق الشعبية لا تتساوى كلها في الدرجة نفسها. على سبيل المثال: درجة التواصل الإنساني في الأسواق الشعبية الإنجليزية التي زرتها وعرفتها تختلف تمامًا عن الأسواق الشعبية الليبية في المدن والقرى.

الأسواق الشعبية لا تتساوى كلها في الدرجة نفسها. على سبيل المثال: درجة التواصل الإنساني في الأسواق الشعبية الإنجليزية التي زرتها وعرفتها تختلف تمامًا عن الأسواق الشعبية الليبية في المدن والقرى. السوق الشعبية الإنجليزية هادئة في أغلب الأحوال ويسودها النظام ولا مكان بها للمقايضة، وكل ما يُعرض فيها من بضائع مُسعَّر. دنيا "مستّفة" ومنظمة وكل محل برخصته وتخصصه التجاري، والباعة من الرجال والنساء يا خالتي عاشورة.

الباعة في الأسواق الشعبية الإنجليزية يحبون المناداة على بضائعهم لإثارة اهتمام المتسوقين، ولهم في ذلك أساليب لغوية ذكية وصياغات جميلة لا تخلو، في أحيان قليلة، من وقاحة مغلفة ومضحكة. ويتسم أغلب الباعة بذاكرات قوية تتيح لهم تذكر الزبائن الذين سبق أن وقفوا أمامهم في محلاتهم للتبضع.

في الباب الجديد، السوق الشعبية الأولى التي عرفتها، في طرابلس ترتفع نسبة درجة التواصل الإنساني، إلى حد التصادم والاعتداء والضرب في بعض الحالات. تخيَّل أنك صبي صغير ونحيل، مثلي في تلك السنين الغابرة، "تطلع" من شارعكم في "وسعاية بوراس" في آخر الحارة الصغيرة لتجد نفسك، بعد دقائق قليلة، في باب الجديد ووجهًا لوجه مع الباب الجديد مفتوحًا بحضوره التاريخي على سور القلعة التركية العتيقة وأنت لا تعرف ذلك!

وحين، فيما بعد، أدركت ذلك، أدركت أيضًا أنني كنت محظوظًا لأني في مرحلة مهمة من عمري، كنت جزءًا عضويًّا من تلك البانوراما التاريخية وتنفستُ هواءها وتنفسَتْ هوايَ.
لما "تخش" السوق من خلال بوابة قديمة في السور، منزوعة الأبواب، ينفتح أمامك عالم بشري يتقد حيوية وتنوعًا. في سقيفة البوابة يقف بائعو الساعات و"الراديوهات" خلف طاولات خشبية بأحجام مختلفة يعرضون ما لديهم من ساعات و"راديوهات".

الحلاقون يحتلون ما بعد السقيفة بلا سقف. معظمهم من كبار السن، تراهم يحلقون شعور رؤوس زبائنهم أو يفصدونهم بـ"المغاثي". بعد الحلاقين، يأتي باعة مختلفون تختلف بضاعتهم من بيع الكتب القديمة وتصليح الأحذية وصنع الصنادل من إطارات السيارات، إلى بيع الخردة والأشياء المستعملة.

الحلاقون يحتلون ما بعد السقيفة بلا سقف. معظمهم من كبار السن، تراهم يحلقون شعور رؤوس زبائنهم أو يفصدونهم بـ"المغاثي". بعد الحلاقين، يأتي باعة مختلفون تختلف بضاعتهم من بيع الكتب القديمة وتصليح الأحذية وصنع الصنادل من إطارات السيارات، إلى بيع الخردة والأشياء المستعملة. سوق الخضرة يمتد بعد هذه البطحة في وسعاية كبيرة حتى نهاية السوق على الشارع الرئيس؛ حيث تصطف عربات باعة الخبز مليئة بأصناف الخبز. على يمين الخبّازة تصطف ساحة التاكسيات الشعبية (روميس) التي تربط بين طرابلس والمدن الأخرى شرقًا وغربًا وجنوبًا. رائحة الخضرة الطازجة ممزوجة في طزاجة الأرغفة وصياح الباعة على بضاعتهم "المليح نقض يا ماشي قول للجاي". في داخل دائرة إنسانية تنفتح على الصباح مبكرًا وتتسع في أنحائه بمرور الساعات ثم تتناقص وتخبو كليةً في ساعات المساء، لتشتعل في مساحة بشرية أخرى.

في الباب الجديد، سعر كل بضاعة يتحدد في أغلب الأوقات وقتيًّا بين البائع والمشتري، وكثيرًا ما تسمع "ياخوي فلوسك في جيبك وبضاعتي قاعدة عندي، شوف لك غيري".
مرات تسمع صوت بائع يرتفع في حدة نابحًا في وجه زبون مزعج وبخيل: "هذا هو السوم، خوذ والا خلّي".

كان يعجبني، وما زال، هذا القول الشعبي السائر "خوذ والا خلّي". الذي قد يقوله بائع لمشترٍ في أيَّة سوق شعبية. وتحول القول السائر مع مرور الوقت إلى مثل شعبي يُستخدم في دوائر اجتماعية بعيدة كل البعد عن أصله. وأنا شخصيًّا صرت أحاول الاستفادة منه في بناء نسق فكري خاص يمكنني تحويله إلى سلوك واقعي وعملي يقلل قليلاً من هموم أتعابي في الدنيا.
في سوق الأفكار والنظريات الفلسفية والسياسية، التي تمتد على جبهات العالم الكثيرة، تبرز الديمقراطية كمصطلح فلسفي وسياسي ومعروف بقواعد معروفة وبنظم يتفق جميع اللاعبين على احترامها على الرغم من اختلافاتهم. باختصار: هي زي ما يقول الإنجليز "full package" إذا أردته عليك أن تقبله بما فيه ولا مجال لأيَّة مماحكة "خوذ والا خلّي".هي "هكي"، وستظل.

لكل لعبة قواعد وأصول ولوائح، وعلى اللاعبين التقيد بها جميعها، وغير مسموح لأي لاعب أن يرفض الاعتراف بجزء من اللوائح المنظمة للعبة؛ لأنها تتعارض مع عقيدته أو فلسفته أو مبادئه. الديمقراطية وُجدت لإدارة الاختلافات بشكل سلمي بين البشر في المجتمعات، وهي الاختلافات نفسها التي تقمعها الديكتاتوريات بقوة العسف بحجة ادعاء الاتفاق.


ما جرَّني لهذا الحديث هو بعض مما لاحظته يحدث على الساحة الليبية بشكل خصوصي وما يحدث في الساحة العربية عمومًا، وتحديدًا في دول ما صار يُعرف بالربيع العربي في تعامل العناصر التي تكون النخب السياسية الجديدة التي أفرزنها الأحداث على الساحة مع الديمقراطية كفلسفة ليبرالية وكنظام ليبرالي سياسي.

في بريطانيا، هناك حرص معماري وجمالي ملحوظ على توضيح وتأكيد الهوية الإنجليزية، وهو يشكل الإطار الجمالي العام في تخطيط المدن، لكن في داخل هذا الإطار تتفتح التنوعات والخصوصيات وتكتسي كل منطقة أو حي في مدينة بخصوصية معمارية محظور قانونا تغييرها تسمى الواجهة العامة. للناس حق التغيير، كل في المساحة الداخلية لبيته حسب مزاجه وحسب قدراته المالية. الديمقراطية كذلك: لا تغيير في النص لكن في داخل المتن كله تتوافر مساحة معقولة لكتابة الهوامش الخاصة.

لذلك حين تقول لك الديمقراطية، كزبون وكمشترٍ: "خوذ والا خلّي"، فإنها على وجه التحديد والدقة لا تقصد ما يقصده من جدية وحدة صوت بائع خضرة في سوق "الباب الجديد" ينبح في وجهك قائلاً: "خوذ والا خلّي".

وهذا حال الدنيا وهذا حال أسواقها.

خطّرهَا عليَّ "السوبر ماركت"!