Atwasat

ركن العامرية.. أنا نملة

فدوى بن عامر الإثنين 22 فبراير 2016, 03:54 مساء
فدوى بن عامر

أطلّت بوجه صبوح صديقة وزميلة عمل من بلد قد أصل إليه من بلادي في غضون ساعتين أو ثلاث، في حال تواجد طيران، ولن أصل أبداً إليه فكراً وحضارة وإحساساً ولو بعد مئات السنون. المفارقة أننا نطلق على أهله (كفار) ونصفهم بالكفر الذي سيوردهم جهنم، بينما نحن على الأرائك فكهون وفي عيوننا نظرة النعيم.

قالت "سأذهب ورفيقي في رحلة إجازة لقبرص الأسبوع القادم، و سنزور مخيمات اللاجئين العرب. هم لديهم الأساسيات من ملابس وغيرها ولكن تنقصهم الثقافة، أعني الكتب، فَلَو وددتِ التبرع ببعض الكتب العربية فسآتي لبيتكِ لأخذها كي لا أتعبكِ بإحضارها هنا، وإن كان لديك الكثير فقد تواصلتُ مع شركة نقل فأعربوا عن موافقتهم بشحن أي عدد من الكتب مجاناً".

وبانتهاء كلام صديقتي انفجرت في نفسي ألوان شتى من المشاعر حركت شيئاً وأشياء في الوجدان، مزيجا من اللهب والبرد، الحزن والغبطة، الغيظ والرضى، التأسف والإعجاب. أحاسيس مرتبكة عديدة ولكن الذي أجزم به هو ذلك الشعور بأنني أشبه بنملة أمام كم عملاق من الأحاسيس الإنسانية الفياضة والقيم الأخلاقية العالية.

الحكاية لم تنتهِ هنا وياليتها كانت لكانت هانت، ولكنها أطلّت بعد أيام بتاجها الذهبي كرمال بلادي ولمعة مبهرة تقفز من سماء عينيها كتلك التي كانت في بلادي في يوم شتوي صاحٍ، جاءت عند رجوعها من الإجازة لتقدم الشكر وبهدوء مريح يفيض ذوقاً مرهفاً وجمالاً فتاناً، وبصوت لا تشنج فيه ولا صراخ كالذي يصلنا ممن يعتلي صهوات المنصات التلفزيونية والجامعية والجُمعية، حدثتني عن تجربتها واصفة المخيم مقارنة إياه بآخر كانت قد زارته في فرنسا.

تحدثت بطاقة أخلاقية شديدة كشفت عن روح وجدانية قوية معبّرة عما اعتراها من مشاعر عند دخولها المخيم وتحكمها فيها كي لا يتفطن اللاجئون إلى أنهم محط شفقة فهي هنا للتخفيف عنهم وإدخال السعادة على قلوبهم. وصفت كيف هرع إليها الصغار والكبار بلهفة عند رؤية الكتب ثم أرسلت لي صوراً التقطتها للمخيم. استرسلت وتحدثت بفرح شديد وحماسة وكأنها "جوّزت بنتها"!.

والشعوراللعين بحجم النملة لا زال مستحكماً وما زالت رفيقتي الأوروبية بشعرها الذهبي الحريري تغيظني عن غير قصد منها أو ربما كانت وقالت "إن كان بإمكانكِ جمع كتب عربية من أصدقائكِ العرب فقد نظّمتُ طريقة لإرسالها للمخيم"! وازداد ذلك الشعور ضراوة وشراسة، الشعور بحجم النملة لا غيره، عندما استرسلت"يوجد بالمخيم في قبرص شبكة إليكترونية ممتازة فتعاونتُ أنا وأصدقاء من أمريكا وأوروبا وتواصلنا مع مسئولي المخيم على أن يتبرع كل منا بساعتين أسبوعياً لتعليم من يعيش في المخيم اللغة الإنجليزية عن طريق التواصل الإليكتروني".

صديقتي هذه من العامة المنتمين للقارة العجوز وبالتأكيد ليست بمسلمة، أو على الأقل ليس الإسلام الذي نراه هذه الأيام. هي جميلة الوجه والفؤاد والروح لدرجة يصعب توصيفها وبأحاديثها تلك تبعثرت الأفكار في رأسي الصغير، ففكرتُ في ما نمتلك، أهو قوة الضمير أم ضمير القوة وما أشدّ البون بينهما!. واستيقظ القلب على اكتشاف الكثير عن سحنة النفس والكثير من المحيطين والبعيدين.

بالتأكيد هي ساهمت بإصلاح لذاتي عميق وبطريقة ما كان تحطيما لها أيضاً! بطريقة رائقة وراقية لا تليق إلا بها وبمن كان مثلها. وتذكرتُ مقولة لعميد الأدب طه حسين تصف قليلاً ما شعرت به حيال هذا الأمر و أمور أخرى عديدة لا يتسع المجال لذكرها مع جزمي بأنكم حزرتم ما عساها تكون "هناك عواطف قد لا تجد لها أسماء، و ضروبٌ من الشعور قد لا تجد لها عبارات تؤديها وتفي بما لها من حق".

و أترك لكم أيها القرّاء الأعزاء إدراك المغزى من وراء كل هذه الثرثرات!