Atwasat

تأملات في انتظار خروج الدخان الأبيض من الصخيرات

عمر الكدي الأربعاء 10 فبراير 2016, 12:01 مساء
عمر الكدي

تنقسم ليبيا بسهولة بمجرد انهيار الدولة المركزية في طرابلس. حدث ذلك مرارا وتكرارا حتى تحول إلى ما يشبه القانون التاريخي، والدولة المركزية لا تشبه بقية دول العالم، وإنما تشير لذلك الطاغية الذي يمسك بكل الخيوط في القلعة الحمراء بطرابلس، بغض النظر عن عرقه أو اللغة التي يتحدث بها، فبمجرد اختفائه وقبل أن يحل محله أحد المتنافسين سواء كان قادما من البحر على رأس أسطول، أو جاء من البر على صهوة جواده، تنقسم البلاد ويتولى زعماء الأرياف والبوادي تصريف الأمور ودراسة ما يجري في طرابلس، وحتى يتمكن الحاكم الجديد من إعادة توحيد البلاد يأمر القراصنة بالخروج إلى البحر واعتراض السفن الأوروبية، ويفرض الضرائب على المناطق المحيطة بالعاصمة، وما إن يتوفر له المال والسلاح الكافيين حتى يجرد حملة عسكرية تتكون من جنوده وبعض القبائل البدوية المعفية من دفع الضرائب، ليصل إلى بنغازي ومرزق في أقصى الجنوب.

سيجد رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي أنفسهم مجبرين على تقديم تنازلات متبادلة وهم يتبادلون السباب ويصفعون بعضهم ويعضون أصابعهم

للأسف لم تدرس الفترة من 1510 إلى 1551 وهي الفترة التي احتل فيها الأسبان طرابلس، ثم سلموها عام 1530 إلى فرسان القديس يوحنا، قبل أن يصل الأتراك بقيادة سنان باشا ودرغوت باشا لتحريرها من فرسان القديس يوحنا وإعادة توحيد البلاد، ففي هذه الفترة تقريبا لأول مرة تعيش البلاد بدون عاصمة، عندما ندرس هذه المرحلة جيدا سنكتشف أن سكان الدواخل توقفوا عن دفع الضرائب، باستثناء الضرائب التي تدفع للحاكم المحلي، الذي قد يكون شيخ قبيلة مهاب الجانب أو فارسا يقود مجموعة كبيرة من الفرسان، بإمكانهم فرض النظام والأمن في منطقة محدودة، بينما تتولى مجموعات أخرى فرض النظام في أماكن أخرى، وهكذا تبلورت المناطق الليبية، فورفلة وترهونة وغريان ومصراته ليسوا جميعا من جد واحد كما توحي أدبياتهم، ولكنهم جاءوا من أصول مختلفة ووحدهم المكان والمصالح، وهم جميعا أمازيغ استعربوا وعرب وأفارقة وأتراك وشركس وأوروبيون تحولوا إلى الإسلام، ومع مرور الزمن انقسموا إلى صفوف حسب المصلحة المشتركة والنظام الاقتصادي، فأهالي الجبل الذين يعتمدون على الزراعة البعلية وتربية الحيوانات يختلفون عن أهل الساحل الذين يعتمدون على الزراعة المروية والتجارة والقرصنة وصيد السمك، وهكذا انقسم غرب ليبيا بين الصف الفوقي والصف "اللوطي" أي السفلي، في حين تولت القبائل البدوية المحاربة ضبط النظام في الجنوب الليبي وفرضت على فلاحي الواحات دفع العشر من إنتاجهم مقابل حمايتهم، كما تولوا حماية القوافل القادمة من أفريقيا، وفي الشرق تولت قبائل السعادي سلطة الأمر الواقع ومنعت قبائل المرابطين من امتلاك الأرض، قبل أن يأتي السنوسي الكبير ويفرض نظاما أكثر عدلا وتطورا.

تنقسم ليبيا بسهولة بمجرد انهيار الدولة المركزية، ولكن إعادة توحيدها يستغرق وقتا طويلا، وقد تخسر بعض القبائل رهانها وتجبر على الرحيل من البلاد، وهذا ما حدث مع قبائل أولاد علي والجوازي وهذا ما نراه اليوم، فلم يستطع المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق التوافق حول التشكيلة الحكومية، لأن طريقة التوحيد السابقة لم تعد ذات جدوى، فلا أحد يستطيع اليوم الانطلاق من طرابلس لتوحيد البلاد بقوة السلاح، كما أن القوة الأجنبية التي عادة ما تتدخل لتسيطر على البلاد بعد تحريرها من الغزاة لم تعد موجودة، مثل الأتراك الذين تدخلوا عام 1551 وعام 1835 بعد عامين من الثورة على يوسف باشا القرمانللي، ومثل الاستعمار الإيطالي والقوات البريطانية التي سيطرت على البلاد عام 1942، ولكن القانون الذي لا يزال صامدا هو أن إعادة توحيد البلاد ينطلق من طرابلس سواء كانت عاصمة أو اختار الليبيون عاصمة غيرها، أو أصبح للبلاد ثلاث عواصم كما تقترح هيئة الدستور الكسيحة، ومع ضغط المجتمع الدولي سيجد رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أنفسهم مجبرين على تقديم تنازلات متبادلة، وهم يتبادلون السباب ويصفعون بعضهم ويعضون أصابعهم، بينما مارتن كوبلر ينظر إلى ساعته مستعجلا إياهم الخروج بنتيجة، وهو يستغرب بعقله الألماني من هذا الهوس بالجدال بين أبناء الوطن الواحد، وقد يلجأ إلى وضع مدخنة في قصر المؤتمرات بالصخيرات يخرج منها دخان أسود ويجلس لينظر خروج الدخان الأبيض.

لا يدرك كوبلر، وهو سليل القبائل الجرمانية البربرية، طبيعة المجتمع الليبي، الذي لم تتطور بنيته الاجتماعية مقارنة بالبنية التحتية والمادية، فالخلافات في السابق كانت بين شيوخ القبائل الأميين والخلافات اليوم بين أحفادهم من حملة الماجستير والدكتوراه، وبالرغم من اتساع التعليم وخروج الليبيين إلى كل أنحاء العالم، لكنهم لا يزالون ينظرون إلى بلادهم كما كان ينظر إليها أجدادهم، ولا يزالون مجموعة من الشعوب تعيش في بلاد واحدة، خاصة وأن القذافي لم يترك خلفه مؤسسة واحدة باستثناء أزلامه الذين يريدون إعادة"الجماهيرية العظمى" بدون قائدها"التاريخي"، وكأنهم لا يريدون أخذ العبرة من هذه المأساة، والشعب الذي لا يدرس تاريخه جيدا يقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها أجداده.