Atwasat

سيدٌ من سادةِ الحياة: سالم العوكلي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 09 فبراير 2016, 02:02 مساء
أحمد الفيتوري

الليلُ / هو الذي كانت تصنعهُ أمي / حين تُخفت ضوء الفنار ...
والصباحُ / هو الذي تجلبهُ أمي / حين تُشرعُ النافذةَ / لتوقظني.
شمسي : تلك التي كانت / تُشرق من فوقِ تلة / خبأتُ فيها ألعابي.
قمري /هو مطرُ الضوءِ الخفيف /الذي كان / يُبلل وسادتي.
الأرضُ كُلها / هي حباتُ الترابِ التي تعلقُ بجبينِ أبي / حين يُصلي.
وحدائقُ العالم / حيثُ حطت فراشةٌ / على مرأى من غبطتي.
شعر: سالم العوكلي

ربيبُ البساطة من يمقتُ التملقَ والادعاء، سليلُ الشعرِ مَن الوطن عندهُ مشروع وليس ميراثا، ولد في"لالي" سفح"القيقب" في الجبل الأخضر كمارق من المكان وعن مُشتقاته، وكالطودِ نزع إلى"درنة" المدينة التي تضربُ جذورها في التمدن منذ"درانس" الإغريقية ومآلها الأندلسي، ومِن هذا شغفهُ المستقبل ونظر إلى الخلف بغضب واستل نفسهُ وناء بها عن براثن الحاضر، ومن هذا كان القنطرة القادرة على حمل الثقيل، هو مَن خفتهُ حملٌ لا يُحتمل، هو سالم العوكلي الشاعر من لم يطرح موقفه للمُزايدة ولا رؤيته للحياة، ولا كال الوطن بمكيال هات وخذ.

عاش في خضم الشعر واعتزل السلامة، خاض واعترك مع تفاصيل البلاد ولم يجتنب التابو منها بل ناهض العسف بما استطاع إليه سبيلا، وكما يكتب الشعر عاش حياته حقيقياً وصادقاً مع نفسه ولم يرتض لأجلِ ذلك غير ما يري وما عرف، وكما هو ربيبُ البساطة تصوفَ لأجل المعرفة التي عندهُ جسدٌ حيٌ يُمس ويُشم ويُسمع ويُرى ويُتذوق، تأنى وصبر وصابر وبتؤدة اغترفَ من معين المعرفة، وتزود من البلاد بالسياحة فيها ، وكابد من أجل ذلك فعاش في عُسر، ويَسَّر نفسه وبيته للأصدقاء من آل البلاد التي عندهُ تختزل الكون ومُشرعة على العالم.

وفي الطريق التي مهدها الروادُ المدونون سار هو، مَن تربي في كنف ثقافةِ المُشافهة، ولهذا احتفى برواد الكتابة والمُبدعين من آل البلاد كما يحتفي الطفلُ بتحصيلهِ الأول ويستعيده، وفي هذا كتب ولأجل هذا كرس الكثير من حياته، وساهم في أن تكون"درنة" قبلةً لمُبدعي البلاد وكُتابِها ومن غيرهم خاصة أثناء إدارته"بيت درنة الثقافي"، وجعل من الثقافة عملا نضالياً من أجل الحرية والحياة، لم يُنظّر لما عُرف بالمثقف العضوي لكنه فعل وعاش كذلك. وتمترس في مدينته"درنة" المغبونة قبل وبعد، وكرس كل ما استطاع إليه سبيلا من أجل أن تبقي منارة للياسمين ولنبيذ المعرفة، فكون وثلة من الزملاء ورفاق الدرب طريقة لجعل المدينة- كما هي حاضنة الفن- سبيلا لثقافة رغم الصعاب بل غصباً عنها.

ولد وعاش وعمل من أجل فبراير، شهر النوار، ما ذاد عنهُ في كل صقيع سبتمبر، كان يعرف 7 أبريل وما أدراك ما 7 أبريل كاحتفالٍ دموي في دولة"القذافي"، ولم يُفاجأ بالعقاب كمن تفاجأ من قبله، حين وقف مع رفاقٍ له في ثمانينيات القرن الماضي ضد المذبحة.
مرة في فندق"تيبستي" بمدينة بنغازي في أول مارس 2011م، في خضمِ الأيام الأولى للثورة كان هناك اجتماع يُناقش أحوال المدينة، وكيف التعامل مع رجال القذافي داعمي الديكتاتور، وقف سالم العوكلي يحملُ صورةً من ميثاق"الحرابي" ويُطالب أن يكون ذات الميثاق ميثاق فبراير، والحالُ في مسغبة، في تلك له عينٌ ثاقبة لم ير طريقاً إلى الوطن غير التسامح.

لم يتعجل ولم يتلكأ في حرثهِ ولا انتظر ما سيحدث ولا انتظر من يجيء، بل فعل ما وجب أن يُفعل، وما رأى أنه يجب ما يجب، فكما لم يتعجل لم يُسوف أمره.

لم يكتب الشعر وحسب بل نثر الشعر في حقل الحياة، وإن لم يحصد ما زرع فلأنه اكتفى بأن يكون الشاعر، ولم يرتض للشاعر وظيفة حتى منصب شاعر، لهذا لم يُداعك من أجل حيزٍ في مكان وما بحث عن صيتٍ في الزمان، هو ثملٌ بما يفعل وحسبهُ ما يفعل دون مغنم، يقتعدُ من البلاد في ركينةٍ، بدرنة، بالجبل الأخضر، بليبيا، بمثابرة لا تكل في تدوين قصيدته ونثر وطنه في تلكم القصيدة.

ومن نثره:
كان الوقتُ بداية الشتاء وكان على الجميع أن يتأهبوا لملاذِهم من البرد والغرق، وهي الكهوفُ المتناثرةُ في تلال(لالي) .. أذكرُ حينما هطلَ مطرٌ خريفي مُبكر وبغزارة، ولم يكفِ الخندق الغميق(الناي) المحفور حول البيت لتصريف المياه الفائضة، أحضرت أمي شُجيرات الشِبرق الأخضر لتفرشها في أرضية البيت بين العامودين الرئيسيين، حيث أعلى مكان لا يمكن لمياه الأمطار أن ترشح منه.. كانت تفرش الحصيرَ المنسوج من أوراقِ الديس فوق أشواكِ الشبرق، وتفرشُ فوقه الشليف، وننامُ على صوتِ الماءِ الجاري تحت أجسادنا، وإيقاعُ القاطر في زاوية البيت االمُتناثرة فيه الأواني الفارغة لتجميع المياه.. جسدُ الأم منتشرٌ في المحيط، مغرقٌ في سخائه الذي لا يعرف الوهن، كل شيء متشرب به، ومُؤنث عبره، مُختلط عبر كيميائه الخاصة مع مفردات المكان، ومعزوفٌ بإتقان إلهي وبعذوبة إيقاع لا يهدأ إلا في عزلته، كل شيء أذكره في طفولتي كان يمر عبر جسد الأم، الحليب، الملابس، المأوى، والطعام الطازج الذي تقضي ليلها تُناجي على حواشيه الرحى بأغانيها، ويدها التي تطلي جسدي بالماء المحمول على ظهرها الذي في أرجوحته الوارفة كم تسلقت معها السفوح، أرقب من فوق كتفها يديها وهما تجنيان أوراق البابونج والزعتر، تستلم الصوف ساخناً من على ظهور الضأن، وتبدأ مرحلة التكوين والعزف المفرد على أوتاره ، يتلوى تحت عصاها مخلوطاً بالجير الذي نجلبهُ من مغاراتِ الجبل الكلسية، وتجري خيوطه النحيلة بين أصابع قدمها ويدها لتلتف على المغزل الخشبي الذي يدور كترسٍ على ساقها، لتمتد الخيوطُ صوب الشفق البرتقالي وهي تحبو على ردفيها خلف قيثارة الصوف الذي سوف ينتصبُ بيتاً مزخرفاً من الداخل بألوان انتحلتها من بقايا ثيابنا، كل رقعة فيه مشحونة بذاكرة وحكاية، كولاج من الألوان الحميمة، لا يربطها شيء سوى مزاج الأم ومجازها لحظة الرفو .

من كتابه (بنات الغابة) المنشور عن دار المدى ببيروت.

* هذا المقال كتب احتفاء بالذكرى الخامسة لثورة فبراير، وأهديه لفيروز العوكلي.