Atwasat

ركن العامرية.. الجرد والتكليلة

فدوى بن عامر الإثنين 18 يناير 2016, 01:58 مساء
فدوى بن عامر

تُلاحظ دقة صنع العباءة البحرينية وفخامتها بمقارنتها بمثيلاتها في دول الخليج وكذا أناقة السيدة البحرينية، التي ترتديها. فهي زيها التقليدي وجزء من هويتها التي تفخر بها، فحتى غير المتحجبة، بالمعنى الحديث للكلمة، ترتدي الدفّة، وهي العباءة، بدون الشيلة(غطاء الرأس).

ويرتدي الرجل البحريني الثوب الأبيض مع الغطرة والعقال وبطريقته الفاخرة، يشذب لحيته ويقلّم أظافره ويتعطر بأفخم العطور العربية والباريسية ويمشي الهوينى مبتسماً، لا يتقدم خطوة ولا هي تتأخر عنه خطوات ويده في يد رفيقته المبتسمة، يذهبان معاً إلى مقهى أو إحدى دور السينما المنتشرة في هذه الجزيرة الأنيقة.

اللافت أن العباءة البحرينية تشهد تطوراً ملحوظاً، لعوامل عدة لا يسع المجال لذكرها، حيثُ بدأت الشابات البحرينيات بالخروج عن اللون الأسود التقليدي بانتشار العباءة البيضاء والرمادية والعنابية، وأكاد أجزم عن قريب ظهور الحمراء والصفراء والخضراء.

أما في بلادي، فقد دمع الفؤاد عند تجولي في شوارع عاصمتها قبل لفحات رياح الربيع مباشرة لرؤيتي هالات السواد، التي لفت النساء لفاً والنقاب مما جعلني أتساءل عن الهوس المصطنع بضياع الهوية، تلك التي ساحت وذابت ولا أدري أين هي الآن إن كانت يوماً هناك، فبدلا من تطوير ردائنا التقليدي الملون الجميل حتى يلائم العصر، سارعنا، وتحت مسوغ فكر ديني مستورد، باستقدام السواد، ولا أدري إن كان لشح القدرات الإبداعية الخلّاقة يد في الأمر رغم مزاعم وفرة الكوادر وما شهدنا قديماً وحديثاً إلا كثرة النوائب.

كيف اختفت أو تكاد هوية دينية كانت العقيدة فيها أشعرية والمذهب مالكياً والهوى صوفياً هكذا في بضع سنين عجاف

اللافت أننا لا نتذكر الزِّي الليبي إلا عند الزواج، ولا ضير من جنون الشروط والمصاريف حينها فالهوية بحاجة إلى التمسك بها.

ليس هذا بيتُ القصيد، بل في اختلاف طريقة ارتداء بعض الليبيات للعباءة وذلك من منظور صويحباتها الأصليات، وما قيل هنا يُقال أكثر منه هناك عن الثوب الرجالي الذي تم استيراده هو الآخر وبنفس المسوغ المستورد، فرغم فخامة وأصالة الجرد الليبي إلا أن رجلنا، حماه الله، فضّل استبدال البياض الأصيل ببياض مستورد، والخارقة تظل في الطريقة المبهرة التي لبسه بها والتي أضحت عنوان أناقته وخصوصاً مع ندرة محال الحلاقة حتى باتت اللحى ذات القبضة والقبضتين والثلاث قبضات خارج نطاق السيطرة!.

في يوم من الأيام عزمتُ وتحزّمتُ وحسمتُ أمري فأمسكتُ بعشر شمعات زهريات اللون متوهجات كشموس عديدة، وبحثتُ أرجاء المعمورة البحرينية، بيتا بيتا، عن امرأة بحرينية تعرف ماهية لباسنا التقليدي، فما نابني إلا الخيبات. وأخذتُ بالضرورة، عشرين شمعة زرقاء ملتهبة وسعيتُ سعياً حثيثاً للعثور على رجل بحريني على علم بالزي الليبي، وليس الهندي ولم يكن حظي بأفضل من سابقه.

وبشموع العالم كلها، زهريات وزرقاء إلا أن حظي استمر عاثراً عندما درتُ باقي الدول التي زّي نسائها السواد ورجالها البياض. لا أحد يعرفنا، أقصد الزِّي الليبي. لا أحد مطلقاً. ويصدني الآن سخط شديد وغضب أشد عن الإفصاح عن سبب هذه الخيبات.

وفي كتابه الهويات القاتلة، يقول أمين معلوف أن الهوية مرتبطة بالموروث الديني، لا ينافسها في ذلك إلا اللغة، ولا تُعطى إلى الأبد مرة واحدة لأنها تابعة للزمان والمكان، إلا أننا نرى بضرورة بقاء الركيزة الأساسية للهوية مهما تغيرت الظروف، على الأقل في دورة حياة الإنسان الفرد، ومن هنا كان غريباً وكذا مريباً أن يستوعب عقلي البسيط اختفاء الملامح الأساسية للهوية الدينية لليبيين في فترة وجيزة، وهي التي كانت لمئات من السنين.

إذ كيف اختفت أو تكاد هوية دينية كانت العقيدة فيها أشعرية والمذهب مالكياً والهوى صوفياً هكذا في بضع سنين عجاف! هوية تكاد تندثر ليحل محلها هويات سوداء أصبحت كلها قاتلة أو مقتولة.

هوية نخاف جزافاً فراقها قد فارقتنا، نجزع عليها بسطحية البلهاء لأننا شعب الشفاهة لدرجة الفكاهة أو ربما الحماقة، أما عملياً فحالنا من حال ساستنا فنحن كل شيء وأي شيء، في الحقيقة، نحن لا شيء. نحن حتى بلا جرد أو تكليلة.