Atwasat

خبز وهوى وخيال

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 12 يناير 2016, 10:13 صباحا
محمد عقيلة العمامي

ظللت، مثل أطفال ليبيا، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مقتنعا أن ذلك الخيال الذي أراه في قمر الليالي الصافية هو لتلك الزنجية الكافرة التي أساءت"للنعمة"، فمسحت مؤخرة ابنها بكسرة منها، فعلقها الله من شعرها في القمر حتى يتذكر الناس سوء فعلتها! قلت لجدتي كل ذلك بسبب كسرة خبز جافة؟ أجابتني: "نعمة. الخبز نعمة ربي، وعليك أن تحترمه، وإلاّ علقك الله بجوار تلك الملعونة، أمعن النظر وسوف ترى بوضوح أطفالا آخرين، سيئين، معلقين بجوارها، وكذلك في عدد من النجوم.. أمعن انظر هناك.. هناك في تلك النجمة . ألا ترى طفلا معلقا من قدميه؟".

وكبرنا نخاف من عاقبة عدم احترام "النعمة"، وإن كنا لم نعد نرى تلك الزنجية الكافرة. خصوصا بعدما صار لي مفتاحي الخاص أفتح به باب بيتنا متى عدت، وكيفما عدت. ذات ليلة عدت متأخرا، وكنت جائعا للغاية.

لم أجد شيئا يؤكل في البيت. كان بإبريق الشاي بقايا تفنة وقليل من السائل المحلى بالسكر، أضفت إليه قليلا من الماء وسكبته فوق كسر الخبز التي تحتفظ بها والدتي في مقطف"النخالة" التي تستخلصها من غربلة دقيق القمح والشعير، لتخلطه بدقيق (الفارينا)، وتعجنه، وتسويه أقراصا، تعلمها بعلامة مميزة، قبل أن تأخذه واحدة من شقيقاتي إلى كوشة الشارع، وتعود به خبزا ساخنا.

تناولت الخبز الحاف الجاف المنقوع في بقايا الشاي، وصمت عواء مصاريني. كان في البيت حبات طماطم، وقليل من مكعبات القرع الجاف، ورؤوس بصل، وخيارة أو اثنتين، أو لعله فقوس، وعلى الرغم من كونها من خير الله، ولكن لا نسميها نعمة! لأنها لا تقوم بما يقوم به الخبز، حتى وإن كان جافا.

إيطاليا تصّر أنها مبدعة المكرونة ولكن هناك من قال أن قرية المقرون الليبية، هي أساس المكرونة

"النعمة" تطلق فقط على تلك التي تمنحك الشعور بالشبع، هي تلك التي تعجن من دقيق القمح، أو الشعير، أو الشوفان، أو الذرة. هي تلك التي تمنحها لك البذرة التي تصير بقدرة الله سنبلة، تحمل مئة حبة! الأرز أيضا نعمة، والبقول، أيضا، ولكن لا نستطيع أن نعد منها الخبز.. قالت لي والدتي:" في عام الشر عجنوا الفاصوليا وصنعوا منها خبزا ولكن استعصى عليهم أكله بسبب تصلبه.. القمح والشعير هما النعمة. تذكر ذلك جيدا!".

تفنن البشر في صناعة الخبز، غير أن المدن كلها لم تعد تعيش بالخبز وحده، وإنما تفننت في تقديم المعجنات، بصورة يصعب تماما حصرها، يكفي فقط أن تتأمل المقاهي وما تعرضه ثلاجات العرض من مخبوزات، وحلويات، وانظر إلى قوائم طعام المطاعم وعدد أنواع المعجنات، المكرونة تحديدا، التي تريد الصين أن تؤكد أنها أساسها، وما"نودل" الأرز إلاّ شكل من أشكال" المكرونة".

إيطاليا تصّر أنها مبدعة المكرونة.. ولكن هناك من قال:"أن قرية المقرون الليبية، هي أساس المكرونة!"، فلقد قرأت موضوعا مؤسسا على معلومة نشرت في مجلة ليبيا المصورة، التي صدرت في بنغازي سنة 1935 واستمرت حتى سنة 1940 وترأس تحريرها المرحوم عمر فخرى المحيشي، تقول أن بحارين من منطقة المقرون خطفهما قراصنة من روما، وهناك بيعا كعبيد، وجاعا فصنعا من دقيق (مقطع ليبي) وهو كما نعلم شكل من أشكال السباغتي ولكنه يطهى طريا، وبعدما شاهدهما مالكهما وسألهما عن الطبق وتذوقه وأعجب به أسماه مقرون، وهكذا تحرفت إلى مكرونة، وإلى الآن هناك طبق إيطالي يعد كما يعد المقطع تماما، غير أن المطبخ الإيطالي يضيف إليه الفاصوليا، ويسمى الطبق" باستا فجولي".

لم تنتشر بدعة، من مبتكرات المعجنات، مثلما انتشرت "البيتسا" التي تعد، وبالتأكيد كله، إيطالية الأصل، ولدت وترعرعت في مدينة نابولي تحديدا، ولكن كلمة "البيتسا" يونانية الأصل:"بيتا" وتعني العجين الرقيق، ولا نستغرب ذلك لأن معظم مدن جنوب إيطاليا بناها الإغريق؛ مدينة نابولي، اسمها القديم ( نيابولس) وتعني المدينة الجديدة، وبها باشر أول محل لبيع البيتسا سنة 1830، ومازال يعمل حتى يومنا هذا.

يقول صاحبه، سليل أربعة أجيال:"نحن نعمل بأيدينا، ونستخدم الطحين الجيد والخميرة والملح والماء ولا شيء غير ذلك" هذا العجين، الذي يقسم أقراصا تزن كل واحدة 150 جراما، تفرد بعدما تخمر إلى دائرة قطرها 30 سم وسمكها خمسة ملميترات، توضع فوقها أساسيات البتيتسا وهي مسحة من عصير الطماطم، جبن المتسوريلا، وقليل من زيت الزيتون والحبق.

هذه الأساسيات هي في الواقع أشهر طبق بيتسا في العالم وهو"لا مارجريتا" وهي التي قدمها المحل لملكة إيطاليا بعدما زارت نابولي، وحمل الطبق اسمها منذ ذلك الحين. هذه البيتسا تبين بوضوح علم إيطاليا "الطماطم الأحمر، الجبن الأبيض، والحبق الأخضر!" ومن هذا الطبق تنوعت مكونات البيتسا.

كيفما يكون فإن البيتسا كما يقال عبارة عن خبز وهوى وخيال

سنة 1954م افتتح بحار اسمه شيكي مطعما لها في مدينة (سكرامنتو) الأمريكية، وانتشرت سلسة منه شملت الجزء الغربي من أمريكا، ثم المكسيك وكندا واليابان، وأستراليا والفلبين، ويتفق متذوقو البيتسا أن فرنسا تعد من أفضل صناعها، حتى أن احد الباريسيين قال:"وكأنني أرى أن شهرة البيتسا الفرنسية ستفوق شهرة برج ايفل!" ويتنوع ما يضاف إلى أصل البيتسا، فمثلا اليابان أضافت: شرائح السيبيا والكلمار، وفول الصويا، وبراعم الخيزران، والزنجبيل، وابتدع طاه برتغالي بيتزا الصياد، فأضاف كبد الطيور، ولحم الدجاج وشرائح الموز، وأضاف الفرنسيون البيض النيء في نهاية الطهي، فصارت البيتسا قريبة الشكل والطعم من" السفنز الليبي بالبيض"!، والبرازيليون أضافوا اليها البرقوق والتين.

وبنيويورك ابتدع طاه اسمه"لاري غولد بيرغ " أنواعا أطلق عليها أسماء غريبة مثل:"الضباب الأسود" وتحتوي المقانق والفطر والبصل والفلفل الأخضر، ونوعا ثانيا أسمه"غولديلوكس" ومكوناتها سمك السلمون والبصل، ونوعا ثالثا أسماه" أبراج السماء".

وشاهدت صديقا من ليبيا أضاف القديد إليها، وصارت التونة من أساسيات البيتسا الليبية، التي كانت شائعة في طرابلس في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فيما كانت غير معروفة في مصر على سبيل المثال. وكيفما يكون فإن البيتسا، كما يقال، عبارة عن"خبز وهوى وخيال".

والبيتسا صارت منتوجا عالميا، وأغرب ما قيل عنها أن بحارا أمريكيا نزل من سفينته الحربية، بميناء نابولي، ليعود في الحال إلى رفاقه مندهشا، يصرخ بجدية أمام رفاقه: " تصوروا أنهم يصنعون البيتزا هنا أيضا".