Atwasat

الزبدة والسلاح

منصور بوشناف الخميس 03 ديسمبر 2015, 02:13 مساء
منصور بوشناف

هذا التعبير الأميركي تحول إلى مصطلح اقتصادي ومفترق طرق لحياة الشعوب في أوروبا وأميركا، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن.

كان جوبلز، وزير الإعلام النازي، أو وزير «البروباغاندا» كما ظلت تسميه وسائل الإعلام الشديدة الحياد في العالم الحر إلى الآن! كان هذا الوزير قد قال والجميع يعد العدة لخوض الحرب العالمية الثانية: «رغم حبنا للسلام فإننا لن نستطيع صنعه بالزبدة، بل بالبنادق».

مصانع سلع «الزبدة» لم يتم توقيفها عن الإنتاج في تلك البلدان بل تم تحويرها وتطويرها لإنتاج السلاح

كان اقتصاد العالم يتحول إلى اقتصاد حروب، وكانت أميركا تعيد صياغة معادلة الزبدة والسلاح لاقتصادها، لتعيد بعد تلك الحرب صياغة اقتصاد العالم عبر مشروع «مارشال» الذي أنتج «كيانات الزبدة» العملاقة وأهمها اليابان وألمانيا المجردة من السلاح، أو «العمالقة المخصيون» كما يسميهم البعض! عذراً لهذا «التداعي» المخل «في الزبدة والسلاح» قبل القول «ما زبدة هذا المصطلح ومعناه؟».

الزبدة هنا تعني «السلع الضرورية للحياة كالغذاء والدواء والمسكن والخدمات» أما السلاح فهو معروف وواضح، أي أن اقتصاد البلدان يتوزع بين إنتاج سلع الحياة وسلع الموت التي يسميها صناعها ومستهلكوها «سلع الدفاع عن الحياة».

كان «هتلر» قد بدأ في ترجيح كفة السلاح على كفة الزبدة في الاقتصاد الألماني، منذ وصوله للسلطة، وكذا كانت بريطانيا وأميركا، رغم كل الادعاء بمسؤولية هتلر فقط عن ذلك، وما يهم هنا هو أن هذا التحول «كان في صناعة تلك البلدان لتلك السلع» وليس في استهلاكها بعد استيرادها كما حدث معنا.

مصانع سلع «الزبدة» لم يتم توقيفها عن الإنتاج في تلك البلدان بل تم تحويرها وتطويرها لإنتاج السلاح، لتعود بعد نهاية الحرب لـ«الزبدة» بقدرات أكبر، وحتى إن دمرت فإن تصاميمها والقدرات البشرية القادرة على إعادة تصنيعها ظلت متوافرة لتلك البلدان.

كان التحول سريعًا وأدى لنقص سريع وكبير في إنتاج سلع «الزبدة» وصار تدخير السلاح أهم من تدخير بطون البشر، صار السلاح يتربع على أولويات حكومات الحرب لتتراجع حاجات الحياة إلى هامش اقتصاد تلك الدول.

بلداننا الصغيرة والفقيرة دخلت لذلك المربع المدمر نتيجة عوامل كثيرة وحجج أكثر ولعل أشهرها تحرير الأرض المحتلة، ومقاومة أطماع القوى الاستعمارية في ثرواتنا، النتيجة كانت السعي المحموم للتسلح وتجنيد الشباب في انتظار المعركة.

كانت الدول المصنعة للسلاح بحاجة لسوقنا وبحاجة لحروبنا «غير المقدسة» بالتأكيد، ولذا صدرت لنا كل خردة الحرب العالمية من الأسلحة، بل ولم تتردد في تزويدنا حتى ببعض الأسلحة الحديثة، لتتحول بعض بلداننا إلى مخازن للأسلحة.

تعتبر ليبيا نموذجاً ممتازاً لنموذج المخزن، وذلك منذ بداية «تصدير النفط» فقد بدأ الكلام عن تطوير الجيش وقدراته في أواخر العهد الملكي، وصاحب ذلك ظهور «البروباغندا» من سيارات وزارة الإعلام التي تطوف شوارع البلاد، مرددة على أسماع العباد «ليبيا الإدريس» إلى تدفق المطربين العرب لغناء الأناشيد لإدريس ليبيا ونفطها وجيشها وقوتها المتحركة، ليتوج كل ذلك بوصول رئيس الوزراء الشاب والطموح و«المثقف» بل ويقول عنه البعض «اليساري» أعني المرحوم «عبدالحميد البكوش» الذي طار إلى لندن ووقع صفقة تسليح اشتملت على «دبابات تشيفتن» لتثار بعدها قضية فساد ورشوة قيل إنها صاحبت تلك الصفقة وليرتبط التسلح في ليبيا بأولى قضايا الفساد.

عبر كل هذا التاريخ من شراء السلاح وتكديسه تذوب الزبدة وتتلاشى أرصدة البلاد سلاحاً وذخيرة وتتحول كل مقدرات البلد للتسلح واستيراده

بعد مجيء القذافي كبرت طموحات التسلح، وأُصيب الليبيون بهوس السلاح، وشرع القذافي في تكديس السلاح وتجنيد الجميع شيباً وشباباً، ذكوراً وإناثاً لتتحول ليبيا إلى أحد مخازن السلاح الضخمة.

دمر «الناتو» كثيراً من السلاح الليبي وربما لم يترك منه إلا ما يصلح لانفجار حرب عصابات متناحرة وهذا فعلاً ما يبدو، فلا نرى قوة ليبية مسلحة تملك القدرة العسكرية القادرة بها على بسط سيطرتها على كل البلاد، فالكل «منهك وضعيف رغم الجعجعة والهتافات والتكبير»، ولا يمكنه سلاحه إلا من اللعب في ملعبه القبلي أو الجهوي.

عبر كل هذا التاريخ من شراء السلاح وتكديسه، تذوب الزبدة وتتلاشى أرصدة البلاد سلاحاً وذخيرة، وتتحول كل مقدرات البلد للتسلح واستيراده، بدل «الزبدة»، بدل الخبز والدواء والكهرباء، لتسود ديمقراطية السلاح وفوضاه.