Atwasat

رحلة إلى مدينة «النار»

حمدي الحسيني الأحد 26 أبريل 2015, 10:56 صباحا
حمدي الحسيني

ماذا تفعل لو ذهبت للمطار واكتشفت أنَّ وسيلة الانتقال الوحيدة المتاحة أمامك هي طائرة صغيرة أقرب إلى «توك توك»؟!

هذا ما حدث عندما قرَّرتُ السفر من جوبا عاصمة جنوب السودان إلى مدينة «واو» أو النار، كما يطلق عليها سكانها المحليون. ففي المطار فوجئت بأنَّ الطائرة التي تحمل شعار الأمم المتحدة، لا تتسع إلا لسبعة ركاب إلى جانب قائدها ومساعده. إحدى الراكبات من السبعة قرأت على وجهي علامات القلق، وبسرعة حاولت تبديد هذه المشاعر قائلة: يبدو أنَّها المرة الأولى التي تسافر فيها إلى واو؟

سؤالها خفَّف من قلقي قليلاً، خاصة أنَّه كان مصحوبًا بابتسامة لطيفة أظهرت أسنانها البيضاء.

إذن لا مفرَّ من السفر، فقد صار لي يومان وأنا أصارع تعقيدات موظف فرنسي «متجهم» من أصل جزائري، ولولا تعاطف موظفة أميركية من أصل هندي لما لحقت بهذه الرحلة أصلاً.

بعد تشغيل المحرِّكات تزايدت سرعة ضربات قلبي، بينما غطى صوت الطائرة الصاخب على أي صوت آخر، فتلاشى الكلام مع باقي الركاب، ثم التفت لنا قائدها الذي يبدو أنَّه من إحدى دول أوروبا الشرقية، وبلهجة صارمة عَرَضَ علينا قائمة محظورات من بينها عدم التصوير أو استخدام الأجهزة الإلكترونيَّة لتجنب التشويش على معدات الطائرة!
خلال دقائق كانت الطائرة تلف وتدور في مدرج صغير خاص بالأمم المتحدة في مدينة جوبا، ثم فجأة انطلقت إلى أعلى بلا مقدِّمات.

لا شيء يمكن أنْ يسمعه الإنسان في هذه اللحظة سوى صوت محرِّكات توشك على الانفجار، حشوت أذني بمناديل ورقية، فشعرت بقليل من الهدوء. بدأت أُشغل نفسي بجمال الطبيعة، حيث كانت طائرتنا تطير على ارتفاع منخفض لدرجة تسمح لنا بمتابعة ظلها على الأرض، وكذلك بعض المَشاهِد الساحرة للمناطق المخضرة حول الأنهار العديدة التي يزخر بها جنوب السودان.

تكرار المَشاهِد ورتابتها، أصاباني بالملل، فالتفت إلى جارتي بالمقعد، فوجدتها تغط في نوم عميق غير مبالية بصوت محرِّكات الطائرة، ولا بما يجري خارجها باعتباره أمرًا معتادًا بالنسبة لها، أما باقي الركاب فبعضهم كان يشاركها الأحلام، بينما البعض الآخر مشغول في متابعة ما بين يديه من تقارير وأوراق، خاصة أنَّ أغلبهم كان من كبار المسؤولين المحليين أو الموظفين التابعين للأمم المتحدة.

 

بعد تشغيل المحرِّكات تزايدت سرعة ضربات قلبي، بينما غطى صوت الطائرة الصاخب على أي صوت آخر، فتلاشى الكلام مع باقي الركاب

المسافة من جوبا إلى واو حوالي 1700 كلم تقطعها طائرة الأمم المتّحدة في 120 دقيقة، لكن القائد أبلغنا بأنَّه سوف يتوقَّف في منتصف الطريق للتزوُّد بالوقود وتبديل بعض الركاب، بالفعل بعد أكثر من ساعة طيران متواصل بدأ في الهبوط ولمحت لافتة مكتوبًا عيها «مطار مدينة رومبيك يرحِّب بكم»، تذكرت هذه المدينة الشهيرة لأنَّ كثيرًا من أبناء الجنوب الذين سافروا إلى إسرائيل كانوا ينتمون إليها.

شعرت بإحساس غريب بعد توقُّف محرِّكات الطائرة، كأن آلة حادة كانت تحفر في قاع رأسي، وبنفس اللهجة الصارمة وبلغة إنجليزية مكسّرة أمرنا قائد الطائرة بالتزام مقاعدنا وعدم التحرُّك باستثناء شخصين، انسحبا في هدوء وحلَّ محلهما آخران، في هذه الأثناء كانت سيارة الوقود تنتهي من تزويد الطائرة بالوقود.

في رومبيك الأمر لم يستغرق سوى 15 دقيقة وكانت الطائرة تحلِّق فوق الغابات من جديد، في طريقها نحو واو، في الجزء الثاني من الرحلة كنت قد تكيّفت بعض الشيء مع صوت محرِّكاتها وشغلت نفسي بالتفكير في البشر الذين يتطلّعون للسماء بعد أنْ يسمعوا أزيز طائرتنا. أغلبهم كان يسير خلف سرب من الأبقار والجاموس الضخم. حياتهم من أعلى تبدو بسيطة خالية من أي تعقيد.

من بعيد بدأت تظهر تجمعات سكانية، واختفت «القطاطي» أو أكواخ البوص وتبدّلت بمبانٍ متواضعة، ثم ظهرت شوارع مرصوفة وهو مشهدٌ نادرٌ في جنوب السودان، الأشجار تُخفي البيوت من شدة ارتفاعها، والبيوت عبارة عن دوائر وحلقات بمحاذاة نهر «الجور» أحد أهم فروع النيل الأبيض.

قبل أنْ تهبط الطائرة دارت حول المدينة نصف دائرة، فظهرت معالمها التي كان أبرزها مسجد الربوة الضخم، وكنيسة القديسة مريم أقدم كنائس السودان قاطبة.

التفت إلى الجالسة بجانبي فوجدتها لا تزال نائمة، لم يوقظها سوى صوت كابتن الطائرة الأجش وهو يبلغنا بسلامة الوصول إلى واو!