Atwasat

محاربو الريح

منصور بوشناف الأحد 02 مارس 2014, 07:23 مساء
منصور بوشناف

في الطريق من "زلة" حيث "مدوين" التي حاصرتها الرمال والعطش، وأضحت أطلالاً مهجورةً ومرورًا بـ"القصير" التي ابتلعها الرمل منذ زمن بعيد، ونشأت "هون" بديلةً لها، كان علينا التوقُّف قرب قلعة "بونجيم الرومانية" التي ظلّت لقرون تتصدّى للرمل والعطش بفضل ارتفاع موقعها، لم يكن توقُّفنا للسياحة ولا المعرفة، كنا هاربين تطاردنا جحافل الرمل وكيران القبلي القاسية. كنا، وفي القرن الواحد والعشرين، نُعيد سيرة أسلافنا المتواصلة منذ بدايات التصحُّر وحتى اليوم. كانت سيارتنا تهرع مرتعبة إلى قلعة بونجيم، كما ظلّت قوافل أسلافنا تفعل.

بونجيم، قلعة الساحل ضد رياح القبلي وخط دفاعه الأخير، اتخذناها ساترًا حتى يتوقّف طوفان الرمل الذي ما زال يتدفّق، منذ آلاف السنين، باتجاه البحر، قاتلاً للزرع والضرع ومجففًا للآبار.

كانت جيوب الحياة بالجنوب قد استطاعت المُقاومة، واستمرّت تنبض بالحياة واحات من الزراعة والحرف والثقافة والفنون وسط بحر العطش والموت.

وظل الساحل مهددًا بالرمال وبغزاة البحر، وكان على الليبيين أنْ يناوروا، من أجل البقاء، على غزاة الشمال ورياح الجنوب، وظلوا يحتمون في منطقة التخوم هذه، أحيانًا متوجّسين من رياح القبلي الجنوبية، وأحيانًا من غزاة الشمال.

كانت الريح المُهلكة عدو الليبيين عبر التاريخ، وتظل ملحمة قبيلة "البسيلي"، في حربها ضد الريح، ملحمة الليبيين المُتواصلة الفصول عبر التاريخ، كانت تلك القبيلة تسكن على شواطئ سرت، وجفف القبلي آبارها، وأفنى زرعها وضرعها، ولم يكن لها من خيار، إلّا مواجهة ذلك القاتل الهمجي، أعني الريح.

وانطلقت القبيلة، بقضها وقضضيها باتجاه عيون الريح لردمها ودفن الريح إلى الأبد، بالطبع لم تنتصر قبيلة البسيلي على ريح القبلي بل ابتلعتهم رماله، وانتهى فصل محاربي الريح من الملحمة الليبيّة، ليظل القبلي يتقدّم كل عام وكل يوم ويضِّيق الخناق على ما تبقّى من مساحات الحياة بالساحل المهدّد دائمًا بالخراب.

في بونجيم يتماس الشمال والجنوب، فهي بالنسبة للشمال تخوم الصحراء، وبالنسبة للقبلي مشارف المدن والبحر. لذا ظلّت بونجيم الجبهة النشطة والقلعة الأخطر بالنسبة للقبلي ومقاتلي الجنوب، وكذلك لمدن ومزارع وغزاة ومستوطنات الشمال.

لا تعني بونجيم قريةً أو حصن التخوم الذي كنا نحتمي به من سياط وكيران القبلي في لحظاتنا تلك، إنها خط يمتد بعرض الخارطة الليبيّة من شرقها إلى غربها باتجاه أجدابيا شرقًا وغدامس غربًا، وحتى مشارف النيل. حصّنه الرومان واليونان والمسلمون لحماية مدن ومزارع الشمال من جحافل القبلي ورماله المُهلكة. فأنشأوا على امتداده السدود والصهاريج ونقاط الحراسة، وكل ذلك لصد جحافل الريح.

تجربة بونجيم لم تنجح تمامًا طوال التاريخ، فقد ظلّت الريح تحمل الرمل إلى سهول الشمال وتقتل اخضرارها، وظل جنود الصحراء الجوعى يتربّصون بمدن الساحل ويهاجمونها

تجربة بونجيم لم تنجح تمامًا طوال التاريخ، فقد ظلّت الريح تحمل الرمل إلى سهول الشمال وتقتل اخضرارها، وظل جنود الصحراء الجوعى يتربّصون بمدن الساحل ويهاجمونها. كانت، وعلى الرغم من كل التحسينات، تجربة فاشلة يمكن إضافتها لمغامرة قبيلة البسيلي التي ابتلعها الرمل، كما يقول هيردوت.

كانت التخوم وخط الوسطى منطقة حيرة وتردد ومناورة بين خصمين عنيفين، ولا تنتهي حربهما، تزدهر بازدهار مدن الشمال، وتواليها تمامًا وتتولّى حراستها من أخطار الصحراء، وتنقلب إلى منطقة للتوتُّر والسطو والقتل والتهريب عند ضعف وانهيار تلك المدن.

من سيوة وزويلة وزلة والجفرة وحتى غدامس، رعى الاستقرار والزراعة تجربة هامة أهملها الليبيون في الشمال طوال تاريخهم. وهي تجربة مقاومة الريح والعطش والرمل بالزراعة والبناء والحرف والصناعات. ربما هزمت مدوين في حربها مع الريح والرمل، وكذلك القصير، ولكن بدائلهما زلة وهون ولدتا لتنتصرا على الريح والرمل، تساندان الشمال في حربه ضد الريح وكذا الجنوب في حربه ضد الجوع والعطش.

تجربة الواحات المُتناثرة وسط الصحراء "تجربة التنمية والاستقرار" كانت التجربة الأنجح، وظلّت تجربة محاربي الريح من البسيلي، وإلى اليوم، ظلّت تجربة محاربة الريح والرمل بالسلاح تجربة الهلاك الليبي عبر العصور التي على الليبيين أنْ يعوها لبناء مستقبل هذا الكيان.