Atwasat

في علاقة المثقف بالدكتاتور

عمر أبو القاسم الككلي السبت 07 مارس 2015, 10:52 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تتخذ علاقة المثقف بالحاكم الدكتاتور(وليس بالسلطة السياسية بالمعنى العام) أشكالا متنوعة وملتبسة ومتغيرة. لكننا نركز هنا على الحالة التي تتخذ فيها هذه العلاقة"شكلا تكافليا"، إذا جاز التعبير. وهي الحالة التي يتقاسم فيها الحاكم الدكتاتور والمثقف الأفق، أو الطموح أو المشروع، السياسي نفسه. فيرى الحاكم في هذا المثقف داعما فكريا وثقافيا يمنح مشروعه السياسي حيوية، ويرى المثقف في هذا الحاكم حاملا وأداة لتحقيق، ولو قدر من، رؤيته السياسية التاريخية، فيحدث نوع من التقارب والتفاعل والتضافر. وليس ضروريا أن يتم ذلك من خلال تفاعل شخصي وعلاقة مباشرة يحيك نسيجها الاثنان. فكثيرا ما يحدث اتفاق ضمني غير معلن وعن بعد بين الاثنين، حيث يتطوع المثقف لمساندة الدكتاتور حتى في الحالات التي يتعرض فيها هذا المثقف لقمعٍ وتنكيلٍ من قبل نظام هذا الكتاتور ذاته!.

هنا يمكن القول أن هذه العلاقة تنطوي على باطن عدائي وخديعة من طرف الدكتاتور. وهي خديعة كثيرا ما تسهم فيها الظروف التاريخية الشاملة.

ولعل الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي يعد أفضل من صور هذه العلاقة كمثقف بينه وبين حقبةِ، أو لنقل مشروعِ، جمال عبد الناصر. ففي قصيدته"مرثية للعمر الجميل" التي كتبت بعد وفاة جمال عبد الناصر يقول:

[.............]
انني قد تبعتك من أول الحلم،
من أول اليأس حتى نهايته،
ووفيت الذماما
ورحلت وراءك من مستحيل إلى مستحيل
لم أكن أشتهي أن أرى لون عينيك،
أو أن أميط اللثاما
كنت أمشي وراء دمي،
فأرى مدنا تتلألأ مثل البراعم،
حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل.

(ديوان أحمد عبد المعطي حجازي. دار العودة. بيروت. 1973ص 547. وأرقام الصفحات الواردة لاحقا تحيل إلى هذه الطبعة)

فالتكافل هنا يتم عن بعد، لحمته المُناخ العام لحركة التحرر العربي حينها حيث يلتقي حلم الشاعر بمشروع الدكتاتور في مساحة واضحة، والشاعر لا يحيد عن موقفه المؤازر هذا رغم ما يتعرض له من تنكيل على يد الكتاتور:
كنت في قلعة من قلاع المدينة مُلقىً سجينا
كنتُ أكتب مَظلمةً،
وأراقب موكبك الذهبيَّ،
فتأخذني نشوةٌ، وأمزق مظلمتي،
ثم أكتب فيك قصيدة
( ص 551)

لكنَّ مشروع الدكتاتور قُيِّض له أن يؤول إلى إخفاق ذريع ويتبخر، جراء ذلك، حلم الشاعر وصَعُبَ تحديد المسؤولية على هذا المآل:

من تُرى يحمل الآن عبء الهزيمة فينا
المغنِّي الذي طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه
أم هو المَلِكُ المدعي أن حلمَ المغني تجسد فيه
هل خدعتُ بملكك حتى حسبتك صاحبيَ المنتظر
أم خدعت بأغنيتي،
وانتظرت الذي وعدتك به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسراب الزمان الجميل؟!
(ص 549)

ألهمني هذا الحديثَ مقالُ سالم العوكلي" النيهوم والقذافي(تأويل العسكري للمفكر)" المنشور في"بوابة الوسط" بتاريخ 5/3 الجاري، والذي يتناول فيه العلاقة التي انعقدت بين الكاتب الليبي صادق النيهوم والدكتاتور الليبي معمر القذافي. وهو نمط من علاقة المثقف بالحاكم تختلف عن العلاقة المتناولة أعلاه. إذ ثمة هنا اتصال شخصي مباشر بين الطرفين.
حين انقض القذافي على السلطة كان النيهوم كاتبا ذا شهرة واسعة بين جمهور القراء وكان يعيش بالخارج. كانت مقالاته بجريدة الحقيقة، التي أذكر أنها تصدر في عدد يوم السبت، تزيد من مبيعات الصحيفة ذلك اليوم. كانت كتابته متفردة في الحركة الثقافية الليبية تتناول القضايا والعادات الاجتماعية بشكل تهكمي. كانت كتاباتٍ أقرب إلى الأدب الساخر منها إلى أي شيء آخر تجعل الليبيين يرون أنفسهم في مرايا محدبة(تضخم الصورة وتشوهها) فيُغرقون في الضحك على أنفسهم. لكن هذه الكتابات، وإن كانت منتقدة( وليست ناقدة) للأوضاع الاجتماعية، إلا أنها لم تكن ذات منحىً تنويري. فهو يتعامل مع القضايا الاجتماعية"بروح المصلح" مثلما يعبر سالم العوكلي في مقاله، و(تمرده مربوط برسن)، مثلما يعبر أيضا، وإن كان يعود في مكان آخر من المقال ليصف مشروعه بالتنويري.

لم تكن توجهات النيهوم السياسية وخلفيته الفكرية ومنطلقاته الفلسفية ظاهرة في كتاباته في تلك المرحلة(نهايات المرحلة الملكية والسنتين الأوليين عقب صعود القذافي).
في ما عرف بـ"ندوة الفكر الثوري" التي عقدت بطرابلس سنة 1971 بتنظيم من"مجلس قيادة الثورة" ويهيمن عليها معمر القذافي كان النيهوم حاضرا، وعلق عمر المحيشي بعد أن تحدث النيهوم واصفا إياه بأنه(مثقف وليس ثوريا)* الأمر الذي حدا بمعمر القذافي أن يمتدح النيهوم بطريقته الخاصة حيث أبدى أنه يعرفه من خلال كتاباته وأنه يكتب عن الغول! كان معمر القذافي يقصد، في ما يبدو، أن الغول الذي تكلم عنه النيهوم يمثل رمزا للملك إدريس!

في تلك الندوة طرح البعض مسألة الديموقراطية وطرح البعض الآخر، في مقدمتهم النيهوم، مسألة الشورى!

ومن ثمَّ، في ما يظهر، ابتدأ انعقاد العلاقة بين الطرفين. أيهما سعى إلى الآخر؟ هل تمت العلاقة بمبادرة مباشرة من أحدهما أم عبر أصدقاء مشتركين؟هل كان النيهوم يؤمن بالشورى فعلا قبل لقاء القذافي أم أنه استشعر توجهات الرجل وكيف نفسه على أساسها؟ هذه الأسئلة، وما شابهها، يمكن أن يجيب عليها شهود مباشرون.

المهم أن ما أسميناه بـ"علاقة التكافل" قد انعقدت بين الرجلين وهي ليست وحيدة الاتجاه، مثلما يوحي عنوان مقال سالم العوكلي. أي أنها لا تقتصر على"تأويل العسكري للمفكر" وإنما ترتد إلى"تأويل المفكر للعسكري" أيضا ومحاولة الالتقاء معا على أرضية مشتركة، وإن كان كل منهما يحاول أن يترك وراءه مساحة أكبر من هذه الأرضية مما يتركه الآخر. إلا أنه، في شراكة كهذه، يكون نصيب الدكتاتور أوفر بكل تأكيد.

إن تأثير النيهوم في مشروع القذافي وأطروحاته، وتأثير القذافي في"تحولات" النيهوم الفكرية تحتاج إلى دراسة، بل دراسات، مدققة تتحلى بالموضوعية والإنصاف. وهنا أريد مناقشة نقطة واحدة، وردت في مقال سالم العوكلي، وهي عزوه تسمية القذافي أطروحاته بـ"النظرية العالمية الثالثة" إلى تأثيرات النيهوم المنبنية رؤاه أصلا على الثلاثيات. لا أعتقد أن هذا صحيح. فحين بادر القذافي بهذه التسمية كان يوجد وقتها مصطلح"العالم الثالث" الذي يعني البلدان غير المنتمية تصنيعيا واقتصاديا إلى الكتلة الرأسمالية أو الكتلة الاشتراكية، وكانت هناك دول"عدم الانحياز" التي كانت تسعى إلى تكوين كتلة ثالثة لها ثقلها في السياسة الدولية تنأى بها عن الاستقطاب الحاد بين دول الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية، وكان هناك مصطلح"التطور اللارأسمالي" الذي كان يختص بالتجارب الاقتصادية في البلدان التي تحد بشكل كبير من حرية السوق وتتيح قدرا كبيرا من هيمنة الدولة على الاقتصاد من خلال القطاع العام، أي أنه يعد توجها اقتصاديا ثالثا، ولا أعتقد أن فكرة"الثالثية" هذه، باعتبارها توسطا بين طرفين متناقضين(أو فضيلة بين رذيلتين، على رأي أرسطو)، كانت غائبة عن تفكير معمر القذافي. أضف إلى ذلك تأصل فكرة"الوسطية" في ثقافة المنطقة التي لا بد وأنها كانت حاضرة في وجدان القذافي من خلال توجهه الديني.

إن تأثير النيهوم في مشروع القذافي وأطروحاته، وتأثير القذافي في"تحولات" النيهوم الفكرية تحتاج إلى دراسة، بل دراسات، مدققة تتحلى بالموضوعية والإنصاف

إن جهود النيهوم في مقالاته في مجلة"الناقد" أوائل التسعينيات انصبت، حسب ملاحظتي، على محاولة تمتين وتعميق"أطناب إسلامية" لتثبيت"خيمة القذافي السياسية" في الوجدان الليبي، علما بأن القذافي لم يكن منفصلا عن التوجهات الإسلامية هو الآخر. لقد انتبه الكاتب المصري محمد جلال كشك إلى نقطة تتقاطع مع ما أطرحه هنا حين اعتبر مقالات النيهوم المنشورة في مجلة الناقد، المجموعة بعد ذلك في كتابه"إسلام ضد الإسلام. شريعة من ورق"، بأنها معادية للديمقراطية وتُثَبِّت ركائز حكم العسكر(انظر مقالته"في خدمة العسكر: محلك سر!" في: صادق النيهوم، إسلام ضد الإسلام، شريعة من ورق. رياض الريس للكتب والنشر. ط 2. دمشق، 1995ص 273). ورغم أن النيهوم كان يرد على مناقشيه ومهاجميه، حتى قليلي الأدب منهم، بهدوء ودماثة، يحسد عليهما فعلا، حاصرا النقاش في الموضوع المحدد، إلا أنه خرج هنا عن سياق مناقشاته المعتاد ولجأ إلى التهجم الشخصي على صاحب المقالة من مثل"لا أمنحك شرف الحوار أصلا" و"[...] تعري جميع أكاذيبك، إذا كان ذلك مازال يحتاج إلى تعرية" و"[...] أنك رجل هزلي، تقول ما لا تعلم، ولا تستحق شرف النقاش الجاد."انظر رد النيهوم: تقول ما لا تعلم. ص 291 من نفس الكتاب".

لابد من القول، ختاما، أن النيهوم كاتب بالغ الأهمية في الحركة الثقافية الليبية، والدليل على هذه الأهمية هو الاختلاف الشديد حوله من تبجيل يلامس، لدى البعض، حدود التقديس إلى مهاجمته والتهوين من شأنه. لذا فإن ثمة حاجةً ماسةً إلى دراسة نتاجه دراسة موضوعية شاملة تكشف خلفياته الفكرية وتحدد مراحل تطوره الفكري والعوامل المؤثرة في تشكيل هذا الفكر وهذا التطور إلخ .

* أشكر الأستاذ أمين مازن الذي تفضل وأمدني بهذه المعلومة.