Atwasat

الطريق إلى جنيف

أحمد الفيتوري الأحد 18 يناير 2015, 12:06 مساء
أحمد الفيتوري

الليبيون ذكرياتُهم سيئة مع سويسرا، فقبل مئة عام وبالتحديد العام 1912 وعقب احتلال ليبيا بالقوة من قبل إيطاليا، وفي المدينة السويسرية (لوزان) التي تبعد 60 كلم عن جنيف تم توقيع معاهدة «أوشي» بين الإمبراطورية العثمانية أو الرجل المريض - كما وُصفت الامبراطورة حينها - والمملكة الإيطالية، المعاهدة التي بموجبها سلَّم مَن لا يملك لمَن اعتدى ليبيا التي بموجب هذه المعاهدة ضُمَّت في مرسوم ملكي إلى إيطاليا، وقد وجد الليبيون فجأة أنفسهم مواطنين إيطاليين فقابلوا هذا العسف بكفاح مُسلح، كانوا وحدهم حينها مَن يقود حربًا مسلحة ضد دولة مُستعمِرة.

وثمة كتابٌ للمؤرخ الليبي عبد الكريم الوافي يُحلل معاهدة «أوشي» تحت عنوان «الطريق إلى لوزان»، ولعله ليس ثمة علاقة مباشرة بين لوزان وجنيف غير أنَّ الليبيين في الحالين تُجرى مُباحثات حول مصيرهم في ذات البلاد، وأنَّ بين جنيف ولوزان قرنًا من الزمان لم يُحقق فيه الليبيون دولتهم المدنية بل دخلوا في حروبٍ بدأت ولم تتوقفْ حتى الساعة وإنْ تخللتها هُدنة مرة ومرة.

لأنَّ كل نزاع بشرى مآلهُ الحوار فإنَّ الأطراف التي جنحت للسلم والمجادلة بالتي هي أحسن غدت الأقوى لأنَّ سلاحها أقوى ما يملكهُ البشر: العقل

من لوزان إلى جنيف طال الطريق، ومن العام 1912 إلى العام 2014 طال الزمان، وكأنما الليبيون محلك سر! في مطلع العام الرابع عشر بعد الألفين وفي خضم حرب أهلية وجد العالم، خاصة الأوربيين، أنَّ الحوار الوطني الليبي، أو حوار جنيف، هو الفرصة الأخيرة لليبيا، وإنْ لم تكن كذلك حرفيًّا فإنَّها الطريق الوحيد لإنقاذ شعب يسكن الصحراء الكبرى وله أكبر شاطئ على المتوسط وبلادهُ مُهددة أنْ تُحوَّل لأسباب عدة لوكرٍ للإرهاب.

حوار جنيف إذًا طوق النجاة من الغرق في بحر الظلمات الذي اتخذ من المنطقة وسيلة، ليبيا البطن الرخو فيها، ولعل البيان الذى صدر عن الجلسة الأولى من الحوار قد بيَّن إدراك المتحاورين ورعاة الحوار لذلك، ومن هذا وكد البيان ثوابت للحوار، وأشار إلى تفاصيل هي المنطلقات الأساس لأي حوار وطني يهدف لاستعادة بلاد من أسر الاقتتال والعنف أولاً، ويرسم خارطة طريق للافتكاك من هذا الأسر بالبناء وبوضع حجر الأساس لدولة مدنية، والبيان

وكد ذلك بإجماع الحضور، وهذه خطوة أولى مهمة وضرورية لفك الاشتباك مع أطراف إرهابية أدانها البيان، كما أدانها كل الليبيين، ومن ثمة العالم عبر قرارات، وكأنما البيان إقرار وصبغ توقيع على فحوى تلكم القرارات.

هكذا أظهر البيان وبالأساس حوار جنيف أنَّه الفرصة الأخيرة التي اغتنامها جاء كما لو كان فرزًا بين معتدين على الوطن والشرعية وإرهابيين يبررون فعلتهم بالتغيب عن الحوار الذي كما رسالة أين ينحاز كل طرف وما أهدافه من هكذا انحياز، لقد حصحص الحق في حوار جنيف من جلسته الأولى وشهد على ذلك الأمم المتحدة كافة.

الجلسة الأولى مجرد جلسة افتتاح لكنها المفتتح المُبين والفاتحة الفصل، وحوار جنيف ماراثون السلم المجتمعي الليبي فيه الخطوة الأولى تثقل الكاهل لكن الثانية فيه أسلس، حيث إننا في الأولى كنا نبحث عن إجماع، لكن في التالية نبحث عن الفاعلية، والنخبة المتحاورة بيَّنت مسؤوليتها التاريخية وحنكتها وحسمها وأنَّ الشخصيات عند المستوى، مثلًا امحمد شعيب من أعرفه وأعرف أنَّه مثابرٌ صبور وصاحب أذنين وفم واحد، حيث فقد الليبيون حاسة الإنصات، ومن بيان الجلسة الأولى رسمت خارطة طريق شابها مُصطلح المحافظة على مبادئ ثورة فبراير ما يُذكرنا بالمساس بثورة الفاتح العظيم فظهر كنسج على المنوال.

لأنَّ كل نزاع بشرى مآلهُ الحوار فإنَّ الأطراف التي جنحت للسلم والمجادلة بالتي هي أحسن غدت الأقوى لأنَّ سلاحها أقوى ما يملكهُ البشر: العقل، أما المخالب فقد بيَّنت تجربة البشرية أنَّها في الأخير الأضعف، وسياسة تثبيت ما على الأرض سياسة عقيمة يقتلعها تفاؤل الإرادة والمقاومة، ولهذا الطريق إلى لوزان ونتاجه معاهدة «أوشي» ذهبت أدراج الرياح.

نحن جميعا ليبيون وأمم متحدة، دول جوار ومؤسسات عربية ودولية ملزمون بحمل سلاح الحوار، حوار جنيف والبيان المنبثق عنه، والطاولة المستديرة للحوار في جنيف ليس لنا خيار غير توسيعها على الأرض وفي الوطن وخارجه ومع كل أطياف الحوار، والعمل بكل قوة وعلنا ضد مؤججي النار.

الجلسة التالية علينا أن نعقدها في كل بيت وكل مجلس ومؤسسة وميدان وشارع لدعم حوار جنيف، لنعقد ملتقى، حيث تسنى ذلك في الوطن، في مصراته قبل وفي بنغازي وفي دول الجوار وغيرها، الجلسة التالية تنطلق وخارطة الطريق البيان الأول تنطلق بين أي مجموعة صغيرة كانت أو كبيرة، ولنعمل أن يشاركنا فيها كل راغب في الدعم وقادر من مؤسسات دولية وعربية وجماعات دعم، كاتحاد المحامين العرب أو نقابة الصحفيين المصرية أو التونسية ومن منظمات دولية، ودعوة أفراد لهم ثقل دولي أو عربي لأجل حشد الدعم لبيان السلم الليبي الذي يعنى البشر جملة، خاصة وأنَّ حوار جنيف جاء في لحظة مفارقة وهامة، فكما ذهب الليبيون إلى جنيف فإنَّ السوريين ذاهبون إلى موسكو كما ذهب العالم إلى باريس، علينا أن نكون هنا والآن حيث شُرعت الأشرعة وفتحت الأبواب.