Atwasat

باليسرى.. الكيان الآخر

منصور بوشناف الخميس 06 فبراير 2014, 04:57 مساء
منصور بوشناف

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإعلان استقلال ليبيا وبدايات تأسيس الدولة الليبية الوليدة، كان الكاتب الليبي العائد من مهجره "عبدالله القويري" يعبر الحدود المصرية ويدخل وطنًا لم يعرفه إلا عبر أحاديث أهله المهاجرين وكتب كتبها أجانب عنه، لم تكن ليبيا بالنسبة إلى ذاك المثقف إلا كيانًا من كلمات وخريطة من ورق!

كان الليبيون، من الحدود إلى الحدود، يفتشون عن الخبز وعن الأمن، متناثرين عبر جغرافيا قاسية يجلدها القبلي بسياط النار والعطش، وكان على "القويري" أن يبحث، وسط ذلك البراح الشاسع الذي أسماه الأوروبيون "ليبيا"، عن معنى للكيان وعن مبررات وجود هذ الكيان.

القويري المثقف العائد من مصر، والذي ظهر في الساحة الثقافية المصرية ككاتب قصة قصيرة يحمل هموم فلاحي مصر كأي مثقف مصري، وأصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان "حياتنا"، أو "حياتهم" فيما بعد حيث تم تغيير اسم المجموعة، وبتقديم الناقد المصري اليساري "محمود أمين العالم" أدرك المسألة الثقافية الأهم في ليبيا، أعني "معنى الكيان" وطرحها على نفسه، أولاً، وعلى الثقافة في ليبيا إذ ذاك، ولم يتلق القويري جوابًا غير محاولته الإجابة عن سؤال الكيان ومعناه في ليبيا!

طَرْحُ عبدالله القويري لسؤال الكيان، في ذلك الوقت، كان في وقته وكان من الممكن أن يظل سؤال المثقف والسياسي لتتراكم محاولات الإجابة وتتكون صورة الكيان، ولكن ذلك الطرح ظل صرخة في الفراغ.

قد يندهش الكثيرون أن اسم ليبيا ظل معلقًا في فضاء المخيلة الأوروبية لقرون طويلة، وظل الأوروبيون يطلقونه على شمال أفريقيا كاملًا وعلى أفريقيا كلها أحيانًا، ولم يجد منه الإيطاليون إلا هذه الرقعة التي نسميها الآن ليبيا، ليعيدوا إحياءه من جديد ويطلقوه اسمًا لشاطئهم الرابع، كما كانوا يرددون.

كانت عرافة "دلفي الليبية" تملأ "أوديسا" هوميروس بنبؤات "أبوللو" عن ليبيا أرض الخيرات الوفيرة، حيث تلد النعاج الخراف ناضجة بقرونها، وحيث لا يخلو بيت راع ولا ملك من الزبدة والقشدة والحليب. العرافة التي ظلت صورتها وكلماتها تحفز مخيلة وشهوة الأوروبيين للغزو وفتح أراض جديدة، لا بد أن الإيطاليين قد تأملوا طويلًا صورتها التي رسمها "مايكل آنجلو" على سقف "كابيلا سستينا" ورددت على أسماعهم، بدايات القرن الماضي، ما ظلت تردده طوال زمن هوميروس.

قبل الأوروبيين كان المصريون أطلقوا هذا الاسم على صحراء يأتي منها الغزاة البدو ويهددون النيل والمملكة.

كل هذا لم يكن يعني لليبيين شيئًا، ما كان البدو المتناثرين عبر صحراء الموت والعطش يعرفون كلمة ليبيا ولا حدودها ولا حتى معناها!

كان الاسم وحدود الجغرافيا قد تطابقا مع دخول الاستعمار الإيطالي، على الرغم من محاولة أسرة "القره مالي" فعل ذلك من قبل، ليعرف من قبل الليبيين بعد الاستقلال.

لقد ظل معنى الكيان الليبي وحدوده شأنًا خارجيًا عبر تاريخ ليبيا الطويل، فيحدده المصريون أحيانًا والأوروبيون أحيانًا أخرى، ليظل الكيان الآخر، الكيان الحقيقي الذي يعرفه ويحدده الليبيون غائبًا إلى حد الآن، وقد نفاجأ بتواريخ متناقضة للكيان، وحدود غير واضحة للجغرافيا، ومعان لا حصر لها لهذا الكيان "ليبيا"، لتظل نبوءات عرّافة دلفي: "اذهبوا إلى ليبيا أرض الخيرات الوفيرة، ومن يذهب إلى ليبيا متأخراً سيندم كثيراً" تحفز الآخرين ليحددوا لهذا الكيان حدوده ودوره ومعناه، ولن يعجزوا عن إيجاد أدلاء ليبيين يقودونهم إلى مناجم خيرات ليبيا، كما فعلوا مع الفينيقيين واليونان والرومان وحتى الوندال.

هيرودوت فصل قبائل ليبيا في عصره ورسم حدودها، وكذلك فعل كثيرون بعده ولم يكن آخرهم "أوغسطيني" صاحب كتاب سكان ليبيا في الفترة الإيطالية، كل هذه الجهود عبر التاريخ لرسم حدود كياننا ومعرفة معناه، ولا محاولة منّا إلا "معنى كيان" عبدالله القويري، على الرغم من كل الملاحظات، التي تعتبر محاولة لفهم الكيان الآخر، الكيان الحقيقي.