Atwasat

الدولة الليبية المعاصرة: قمعٌ فاستبدادٌ فضراوةٌ

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 13 يوليو 2014, 11:05 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

التعامل مع التاريخ وقضايا الحياة كافة بموضوعية، خيار توجبه عدة مقتضيات. يفرضه الإخلاص المعرفي والأمانة العلمية، من زاوية الالتزام بشروط المعرفة العلمية. وتفرضه الأخلاق باعتبار الترجمة الأخلاقية لمفردة الموضوعية هي النزاهة المرتبطة، بدورها، بمبدأ النُّصْفة، أو الإنصاف. أي إنصاف الآخر، حتى ولو كان خصما. كما ترتبط النزاهة بالصدق مع الذات والاعتراف بالقصور والمعائب. وللموضوعية جانب نفعي أيضا باعتبار أن فهم الأمور على حقيقتها يساعد كثيرا في إيجاد سبل فعالة للتعاطي الإيجابي (النافع) معها. وعلى الجملة، فالموضوعية مفهوم علمي من زاوية البحث عن "الحقيقة" كما أنها مفهوم أخلاقي من زاوية البحث عن "الحق".
وعندما يتعلق الأمر بتاريخنا الوطني فإن الوطنية الحقة تقتضي منا أن نكون"موضوعيين"، قدر الإمكان طبعا، إزاء هذا التاريخ.

قصدت من هذا الطرح أن يكون توطئة لمحاولة وضع حقبة النظام الملكي في ليبيا، والنظام الملكي ذاته (24 ديسمبر 1951-31 أغسطس 1969)، في الإطار الموضوعي، من خلال تطبيق شروط التعامل العلمي مع تلك المرحلة (ودائما قدر الإمكان).

كثيرا ما نسمع إشادة، تصل عند البعض حد التغني، بالحقبة الملكية وإظهار أن الليبيين كانوا، أيامها، يرفلون في رغد العيش والسعادة وينعمون بالحرية والديموقراطية.

وهذا ليس صحيحا.
فمنذ البداية قامت أجهزة الحكومة المؤقتة، التي تشكلت مع الاستقلال وترأسها السيد محمود المنتصر، بعملية تزوير ضخمة في الانتخابات التي جرت في غضون أقل من ثلاثة أشهر عقب إعلان الاستقلال، فرفضت المعارضة نتيجة الانتخابات وانعقدت مظاهرات ضخمة في طرابلس وقعت فيها اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة بحيث قتل فيها عشرة أشخاص وأصيب مئة وعشرة آخرون، قامت الحكومة على أثرها بحل حزب المؤتمر ونفي زعيمه بشير السعداوي واعتقال عدد كبير من قادة الحزب. وفي ما بعد حلت الحكومة الأحزاب كافة.

ولا ينبغي أن ننسى أن عداء الملك إدريس السنوسي للأحزاب، أو على الأقل نفوره منها، بعدٌ متأصل في رؤيته وممارساته السياسية. فقد سبق له أن أمر، سنة 1947، بحل جميع التنظيمات السياسية في برقة. كما أن أحداث يناير 1964 في بنغازي التي أطلقت فيها الشرطة الرصاص على مظاهرة طلابية فأودت بحياة ثلاثة طلبة وجرحت آخرين، هي من الشهرة بمكان (خاصة وأن نظام القذافي لم يوفر جهدا في استغلالها في حملته الدعائية على الحقبة الملكية). ولن نتكلم عن القواعد العسكرية الإنغليزية والأمريكية التي كانت موجودة على الأرض الليبية، ذلك أنها كانت محصلة لجملة من الملابسات والارتهانات التي وجدت الدولة الناشئة نفسَها واقعة فيها.

لقد كانت الصحف تصادر ويضيق عليها وكانت الكتب تمنع وحرية الفكر تحدد.

ومن الناحية الاقتصادية، فعندما بدأ يظهر، مع النصف الثاني من حقبة الستينيات، أثر العوائد النفطية على الحياة الاجتماعية كان الوضع العام هو أن الفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنىً، وبرزت ظواهر استغلالية لا إنسانية مثل المتاجرة في الأيدي العاملة، حيث يقوم بعض الأشخاص بالاتفاق مع مجموعة من العمال الباحثين عن عمل على يومية محددة ثم "يبيعونهم" لأرباب العمل بأجرة أعلى. وقد تم حظر هذه الممارسة بعد انقلاب القذافي.
خلاصة القول، إن الوضع أثناء الحكم الملكي لم يكن وضعا مثاليا تسوده الرفاهية. كان هناك هامش كبير، نسبيا، للحريات. هذا صحيح. لكنه لم يكن نظاما ديموقراطيا تعدديا يرعى الحريات العامة وقائما على حق المواطنة. بل كان نظاما قمعيا.

في عهد معمر القذافي حل محل هذا النظام القمعي نظام شمولي استبدادي قلص هامش الحريات إلى درجة الصفر أو درجة قريبة منها وانخرط في ممارسات جنونية تنكل بالشعب الليبي.

وحين دُمِّر هذا النظام حل محله نظام فوضوي متوحش تحكمه عصابات ضارية.

مسيرة الدولة الليبية المعاصرة، إذن، ظلت تقفز من القمع إلى الاستبداد إلى الضراوة.