Atwasat

منهجية الرؤية الوثوقية

عمر أبو القاسم الككلي السبت 05 يوليو 2014, 10:32 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

من المؤكّد أنَّ بعضًا، على الأقل، من الذين دخلوا المدارس في ليبيا بداية ستينات القرن الماضي يذكرون كتب المطالعة التي كانت مقررةً آنذاك، والتي كانت من وضع المربي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953). كان خليل السكاكيني حريصًا على إيراد أمثلة عربية وأبيات شعرية حكمية وحكايات طريفة، بعضها من التراث العربي، في هذه الكتب.

من الحكايات التي أظنها وردت في كتاب القراءة للسنة الرابعة الابتدائيّة، ووردت إلى ذهني اليومين الماضيين، حكاية عن فلاح أراد أنْ يعوِّد حماره، أو ثوره، قلة الأكل. فصار لا يعطيه من الأكل إلا النزر اليسير مداومًا على تشغيله كالمعتاد. أخذت الدابة تهزل، شيئًا فشيئًا، إلى أنْ خارت قواها جملةً وماتت. عندها قال الفلاح متحسرًا:

«يا للخسارة! بعد أن تعود قلة الأكل مات!».
هذه، بالطبع، طرفة. لكنها طرفة، تبدو لي الآن، ذات دلالة عميقة تخرج بها من هذا المجال الفردي إلى نمط في التفكير أعم. ففي هذا السياق تخبرنا الدراسات الأنثروبولجية أن الصيادين البدائيين كانوا يقومون، قبيل خروجهم إلى الصيد، برقصة طقسية (سحرية) الغاية منها التحكم في عملية الصيد والنيل من الحيوانات التي ستسنح لهم فرصة صيدها.

ما هو تبريرهم لِما قد يعتريهم من فشل وخيبة؟

لا ينتابهم أي شك في جدوى الطقس السحري الذي تبنوه ويقتنعون أنَّ التوفيق في الصيد مرتبط بعوامل أخرى لا علاقة لها بسطوة المعتقد السحري والعملية السحرية، وإنما يؤمنون بأن نقصًا، أو خللاً ما، قد حدث أثناء رقصتهم الطقسية فأعاق السحر عن النفاذ.

فما هو الرابط بين المثالين؟
الرابط هو أنَّ فلاح الطرفة والصيادين البدائيين لم يشكوا في معتقدهم الأصلي، في نمط تفكيرهم ونظرتهم إلى علل الحوادث التي تجري في العالم، وإنما ظلوا يعزون هذه العلل إلى أسباب أخرى مجهولة وفوق واقعية. فمن وجهة نظر فلاح الطرفة لم يكن موت الحمار أو الثور نتيجة سوء التغذية، وإنما نتيجة علة، أو علل، أخرى خفية. والصياد البدائي لا يُعيد الفشل إلى جملة الوقائع الفعلية التي تواجهه في عملية الصيد، بما فيها أخطاؤه هو نفسه، وإنما يرجعه إلى عدم دقة تطبيقه للطقوس السحرية الضامنة، في اعتقاده، لنجاح عملية الصيد.

ثمة، إذن، نسق ذهني أو فكري، مغلق يتمتَّع بصلابة شديدة تستعصي على الاختراق وغير قابلة لإعادة النظر فيها. إنها ما نسميه «الرؤية الوثوقية» أو «الرؤية القطعية» المنزهة عن الشوائب والنواقص والعلل والأخطاء.

فالأخطاء تحيط بها، لكنها لا تستبطنها. ولذا فإنَّ حملة هذه الرؤية لا يقبلون الآخر المختلف وغير مستعدين للدخول في حراك فكري طبيعي وسلمي يجري في السياق الاجتماعي، ويمكن أنْ تكون بعض نتائجه إعادة النظر في بعض المسلمات في نسقهم الفكري وتعديل بعض الجوانب منه. أي أنَّ الدخول إلى مثل هذا الخضم الفكري يخلق إمكانيات تطور فكرهم مع مستجدات الحياة والواقع التاريخي. لكنهم، على العكس من ذلك يقومون بالتقوقع على أنفسهم معتزلين الحراك الفكري في المجتمعات التي توصّلت إلى ترسيخ مبدأ حرية الفكر وحرية المعتقد وأصبح من ثوابت وجودها، أو يسعون إلى تكميم فم الآخر والتضييق عليه، وحتى استئصاله وجوديًا، في المجتمعات التي تكون لهم فيها اليد الطولى.