Atwasat

مثقف عضوي

منصور بوشناف الأحد 18 مايو 2014, 08:48 صباحا
منصور بوشناف

كنت في أواخر سبعينات القرن الماضي قرأت "كراسات السجن" للإيطالي "أنطونيو غرامشي" وأنا بسجن الكويفية ببنغازي، وإمعانًا في الطريقة والوِرد أو "الميراد" كما يقول الصوفيون قرأته بلغتي الإيطالية البسيطة، ولحسن حظي كان "غرامشي"عضويًا في لغته، رغم بعض القضايا النظرية المعقدة بالنسبة لي وأنا في العشرينات من عمر شديد البؤس وسنواته "صدئة " كما يقول خليفة الفاخري.

"غرامشي" الذي أحببته رغم انزعاجي من إشارته في "كراساته" إلى سجين من برقة أو مجاهد بلغتنا نحن، إشارته العابرة التي لاتلقي بالاً لذلك الأسير الليبي ولا قضيته الوطنية ولا قضية الاستعمار ولا حرب تلك الشعوب المستعمرة ضد الفاشية جنبًا إلى جنب مع اشتراكي أوروبا وقواها الديمقراطية.

"غرامشي" الذي بالإمكان اعتباره "لينين" أوروبا الغربية بخصوصياتها وظروفها، في ذلك الوقت، نظريًا بالطبع، كان فعلاً عبقريًا في إدراكه للخصوصيات القومية وربما يكون أحد مؤسسي "الشيوعية الأوروبية" التي أنجزت القطيعة مع التيار الستاليني الشرقي واقتربت من "الفابية" الأوروبية في حراكها وعملها.

من كل "غرامشي" أو "الدماغ" كما يسميه "موسليني" شاع أهم إسهام فكري له. أعني "المثقف العضوي"، خاصة في العالم الثالث حيث الأمية والتخلف، وشرعت صحف المعارضة في بلدان هذا العالم الثالت تكتب عن مثقف عضوي لأمم لا تقرأ وأخذ هذا المصطلح يتردد على مدى عقود في مقاهي مثقفي تلك البلدان غير العضويين عمليًا!

ارتبط هذا المصطلح ثقافيًا باليسار وامتلأت به منشورات وأشعار وتنظيرات حركات ثقافية يسارية وكرس المثقف العضوي كنموذج للمثقف المناضل الذي يعيش فقيرًا، زاهدًا بين الفقراء ويعمل بفنه وعقله على تنوير تلك الجماهير وإقناعها بالاشتراكية والعدالة، ولكن ذلك المثقف ورغم لغطه المتواصل لم يكن عضويًا، بل بوهيميًا بامتياز "خاصة في العالم العربي، ولم يستطع إقناع حتى نفسه بتلك الاشتراكية مكتفيًا في أكثر صوره تألقًا بعداء الاستعمار والدفاع عن استقلال الأوطان والدعوة للتصنيع والزراعة والثقافة المستنيرة.

بعد الربيع العربي صار مصطلح "غرامشي" منتشرًا وشعبيًا ويكثر ترديده على الفضائيات وفي الصحافة المكتوبة والكتب، وربما في الأناشيد أيضًا، وربما يكون المساهمة الثقافية الأبرز لما تبقى من مثقفي اليسار العربي الذي لم يعد يجرؤ على ذكر الاشتراكية والعدالة واكتفى بالمساهمة بهذا المصطلح في الثقافة الجديدة.

مصطلح "مثقف عضوي" أخذ معنى آخر غير الذي نحته "غرامشي" من أجله وصار يعني نزول المثقف إلى الشوارع وطرق أبواب العقول وإقناعها بالجديد والديمقراطية ودولة القانون.

التاريخ لم يخلُ طبعًا من "المثقف العضوي" قبل غرامشي وبعده، بل إن "غرامشي" أطَّره ووضعه في سياق يخص الاشتراكيّين فقط. فلقد كان الدعاة وأصحاب الأفكار مثقفين عضويين عبر التاريخ وظلوا يعملون لنشر أفكارهم ومعتقداتهم بين الناس بكل الوسائل الممكنة، و"غرامشي" نحت هذا المصطلح ليميز مثقفه الخاص عن المثقف البرجوازي والديني كما كان يرى.

في الحضارة الإسلامية كان "الداعية" هو المثقف العضوي عبر كل عصورها وعبر كل تجليات رقيها وانهياراتها، فكان يشد الرحال حافيًا ويخوض غمار مغامرات خطيرة من أجل أن يصل إلى الناس أينما كانوا وينشر بينهم دينه وأفكاره ورؤاه التي يؤمن بها، ويمثل الدعاة الليبيون منذ اتباع "عبدالسلام الأسمر" وحتى شيوخ السنوسية الذين عبروا الصحراء الكبرى نحو أفريقيا مبشرين بدعواتهم، و"أحمد الزروق" وهو يتكئ على "جناح بئر" بسانية بمصراتة ويدعو فلاحين أميين وبعض المتعلمين، كانوا مثقفين عضوين بامتياز.

المثقف العضوي الأكثر نجاحًا عبر تاريخنا كان، ولايزال، هو الداعية الديني الذي ورث وطور أساليب أسلافه الأقدمين، والذي مدته وسائل النشر الحديثة بقوة أكبر وجعلته قادرًا على الوصول إلى الناس أينما كانوا وبسرعة مذهلة.

المثقف العضوي هو ناشر للأفكار والرؤى بين أناس يهتمون بمصيرهم اليومي والخاص وبمستقبل أبنائهم ويبحثون عن الطريق إلى خبزهم والسلام ولا وقت لديهم وليسوا معدين للتفكير العميق والطويل، يوفر لهم هذا الداعية القريب منهم كل ذلك عبر شريط مسجل أو حديث في راديو وعبر الدين وقيم العدالة المثالية وعبر ثقافة الثواب والعقاب الربانيين وعبر الثقة التي تسكنهم في عدالة الله التي تسير الكون وشؤون الحياة وتعطي لعذاباتهم معنى ونتائج مجزية.

على عكس هذا الداعية العضوي يجلس مرددو مصطلح "غرامشي" بين الكتب وفي المقاهي في دوائر تضيق كل يوم يرطنون بالمصطلحات الأجنبية، مغتربين في أوطانهم ليتحول مثقفهم العضوي إلى "خواجة" متخفٍ في سحنة بدوي مهاجر غير مهتم بكل أولئك البؤساء كما لم يهتم غرامشي نفسه بذلك البدوي من برقة الذي دخل سجن غرامشي سجينًا وضحية لفاشية لا تحاربه في أفكاره بل في وجوده على قيد التاريخ.