Atwasat

كوبري سلطان العشق والتصوف

محمد عقيلة العمامي الإثنين 30 أكتوبر 2017, 09:03 صباحا
محمد عقيلة العمامي

عمل محمد لاظوغلي باشا، رئيس وزراء حكومة محمد علي باشا، بجد وإخلاص لمدة خمسة عشر عامًا، وشهد له معاصروه، ومنافسوه، بالكفاءة والتميز. أراد الخديو إسماعيل، حفيد مؤسس الدولة، أن يكرمه ويخلده، فأمر النحات الفرنسي (جاك لامار) سنة 1872 أن يعد له تمثالاً؛ ولكنهم لم يجدوا له صورة، أو رسمًا. وسريعًا ما اكتشفت عيون الخديو أن سقا القصر، يشبه إلى حد التطابق لاظوغلي باشا، فأخذوه للنحات، فصنع لهم تمثالاً.

هذا التمثال هو المنتصب إلى يومنا هذا بميدان لاظوغلي بالقاهرة العظيمة؛ يقال إن السقا، أو (الوراد) مثلما نسميه في ليبيا، كان يقضى وقته قريبًا من التمثال، يختلق الفرص للفت انتباه الناس إلى تطابقه مع التمثال، موضحًا، لو لزم الأمر، أنه كان نموذج النحت، ولكن الناس صاروا يتهامسون أن الرجل ممسوس، إلى أن صار مسخرة للناس ولم يطل الأمر كثيرًا حتى مسه الجنون تمامًا، مؤكدًا أنه لاظوغلي ذاته.

كلما خطرت لي شخصيات ترأست مجالس وطنية، وانتقالية، ونيابية، وموقتة صارت تتعامل مع الناس على أساس أنها شخصيات نضالية ولولا خشيتهم من الشعب، لطالبونا رسميًّا بأن ننحت لها تماثيل، تنتصب لهم في الميادين العامة!

لا أدري لماذا أتذكر هذه الطرفة، كلما خطرت لي شخصيات ترأست مجالس وطنية، وانتقالية، ونيابية، وموقتة صارت تتعامل مع الناس على أساس أنها شخصيات نضالية حقيقية ترأست، فعلاً، وتزعمت، وثارت وناضلت وحررت ولولا خشيتهم من الشعب، وكذلك قناعتهم بأن التماثيل رجس من عمل الشيطان، لطالبونا رسميًّا بأن ننحت لها تماثيل، تنتصب لهم في الميادين العامة!

في القرن السابع عشر، وتحديدًا سنة 1624 اقترب فلاحٌ، من إشبيلية اسمه «دييغو فيلا سكوينر»، من قصر فيليب الرابع، أقوى ملوك تلك الحقبة. كان «سكوينر» رسامًا موهوبًا لفت وجه بواب القصر انتباهه، فرسمه في الحال.

أخذ البواب الرسم إلى رئيس الوزراء. وصل الرسم إلى الملك، فطلب أن يرسمه الرسام. كان الملك في الثامنة عشرة من عمره، له وجه غبي الملامح، بليد الحس، بسبب فكه العريض. كانت الصورة مطابقة تمامًا لوجه الملك فعيَّنه رسامًا رسميًّا للقصر، فصار أعظم رسام أنجبته إسبانيا في عصرها الذهبي. يقال إن الملك قربه واحترمه، لأنه لم يخدعه إذ رسمه بعيوبه.

بنهاية سنة 2010 وصل زوار برج إيفل في باريس إلى 25 مليون إنسان، ولا أدرى على وجه الدقة عدد الذين زاروا تمثال الحرية بنيويورك، وبالتأكيد ليس بمقدور أحد أن يقول لنا عدد الذين عبروا «كوبري أبو العلاء» الذي كان يربط حيين شهيرين، في القاهرة، أحدهما حي الزمالك الراقي، والثاني حي بولاق الشعبي، وقد انحاز الكوبري إلى الفقراء فتسمى باسم شيخهم «أبو العلاء» سلطان العشق والتصوف.

«جوستاف إيفل» هو مهندس هذه الأعمال الثلاثة العالمية الشهيرة، آخذين في الاعتبار أن مشاركته في تمثال الحرية اقتصرت على الهيكل الإنشائي للتمثال

عرفتُ أن كوبري أبو العلاء نُفذ في عهد الخديو عباس حلمي سنة 1908 واُفتُتح سنة 1912 وبلغت تكلفته، آنذاك، 100 ألف جنيه، والعجيب أن تكلفة تفكيكه بلغت أربعة ملايين جنيه فقط!. وتسمى هذا الجسر، بعد قيام ثورة يوليو باسم «كوبري 26 يوليو»، وهو اليوم الذي عُـزل فيه الملك فاروق وانتهت مصر الملكية. الجسر كان تحفة فنية من الفولاذ، ولكن بعدما أُنجز اكتشفتْ مصلحة الطرق والكباري صعوبة فتحه، وأن ضيق مجرى النيل أسفله يعيق حركة الملاحة الآمنة. الكوبري مازال تحت الحراسة غير بعيد من روض الفرج، بصدد إعادة تركيبه باعتبار أنه تحفة فنية تتعين المحافظة عليها.

عبرت كوبري أبو العلاء مرات ومرات خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، كنت حينها شابًا، وكان عند الأصيل ملتقى للعشاق وتألمت كثيرا وأنا أشاهد تفكيكه سنة 1998.

تذكرت ذلك كله بعدما قفزت بخفة شاب أبيض الشعر «بالميكروباص» عندما أعلن سائق الحافلة:
» إسعاف.. إسعاف». وعندما وصلنا بداية بولاق، طلب شاب من السائق أن ينزل: «السلم يا أسطى..» فيما قال شيخ متكئ على عكازه من خلفي، بحزم: «أبو العلاء يا أسطى» ساعدته في النزول من العربة، تبسمت له وقلت: «لقد سبقتني.. أنا، مثلك، من زمن أبو العلاء» ابتسم وقال: «أيوه كده.. (ألك سلم آل!)» عبرنا معًا نحو وكالة البلح، ومنها ركبتُ، متجهًا نحو روض الفرج، تاركًا كوبري العشاق خلفي.