Atwasat

كاتالونيا وأغاني العَلمْ

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 أكتوبر 2017, 12:06 مساء
محمد عقيلة العمامي

في أثينا التقيت ذات مرة بإسباني نصف مجنون، وعندما تعجبت من تصرفاته النزقة، قال لي: "مكتوب بجوازات سفرنا: حامله إسباني من حقه أن يفعل ما يخطر على باله!" والحقيقة أنني لا أعرف هل ما قاله مزحة أو حقيقة.

الإسبانيون أكثر شعوب أوروبا تباينا؛ إنهم إسبان إلى أبعد حدود، والإسباني مهما تحرر، ومهما تمادى في ذكوريته ودكتاتوريته يعد أكثر رجال الدنيا خضوعا لسلطة أمه.

الزائر لا يحس أن الفوارق بين إسبان الجنوب فليس هناك من يدّعون أنهم نبلاء؛ كرامة الإسباني هي أسمى ما يملك ورجولة الذكر فوق كل شيء لدرجة أنهم يخاطبون بعضهم البعض: "أيها الرجل". ( سيفيليا ) أو إشبيله مثلما أسماها العرب، هي بلد الياسمين، والورود والبرتقال، التي قامت أساسا على تجارة الزيتون، مغرمون بالشعر والغناء، ذي الطابع الغجري المعروف - بالفلامنجو- ولهم غناء شعبي لا يختلف كثيرا عن أغاني (العلمْ الليبية) التي تعد قصيدة بيت واحد يتبادلها مغنيان، كل يغني بيتا يتناغم مع ما غناه رفيقه. ويعشقون مصارعة الثيران، والنساء اللواتي يتفنن الرجال في التغزل بهن فيسعدن كثيرا مما يجعل نزهاتهن المسائية هي متعتهن اليومية، فيما ينتظرهن الرجل الإسباني (الدون جواني) فلا شيء يغيبه عن انتظارهن سوى حاجة تريدها أمه!. الرجل الإسباني أمين، يعتز بكرامته ويحافظ عليها بقوة.

تعاقبت على حكم إسبانيا ثقافات مختلفة، وبعد وفاة فرانكو عام 1975 قُسمت إسبانيا إلى 17 منطقة جميعها "بحكم ذاتي" تتمتع بسلطات متفاوتة. (كاتالونيا) تقع شمال إسبانيا حدودها الشمالية فرنسا والشرقية البحر الأبيض المتوسط وجنوبها فلنسيا مقسمة إلى أربع مقاطعات تضم 946 بلدية، وتعد أقوى مناطق إسبانيا. وهي التي شاهدت التلفزيون البارحة يقول إنها تريد الانفصال عن إسبانيا، وحدثت بها أعمال شغب تأذى منها كثيرون مما جعل الحكومة الاتحادية توقف التصويت عن الانفصال، ولكن من بعد أن وصلت نسبة الأصوات بالموافقة إلى 90%.

يعد إقليم (كاتالونيا) مزدهرا للغاية وله لغة خاصة به، والكتالونيون لا يهتمون برقصات الفلامنجو ولا بمصارعة الثيران ولا السهر ولا قيلولة الظهيرة التي تشتهر بها بقية إسبانيا. يبتهجون لأنهم متميزون عن بقية الإسبان الذين يسمونهم ساخرين: "(الأسياد) الذين ينامون طوال الظهيرة ويمضون لياليهم في الحانات". ينشطون في الصناعة، والسياحة، والزراعة، والتجارة. هذا الكد جعلهم يحققون من بعد انضمام إسبانيا إلى المجموعة الأوربية سنة 1989 نسبة 20% من الناتج القومي الإجمالي تقابله نسبة 16% لألمانيا الغربية. بقية إسبانيا تسمى (الكاتالونيين ) بـ (اسكوتلنديو إسبانيا) لأنهم مثلما يقولون عنهم: "أنهم يفكرون كثيرا قبل إنفاق المال، ويفاخرون بحصافتهم وهدوئهم وليسوا متهالكين على مباهج الحياة، متعتهم العمل"، وهناك مثل إسباني متداول يقول: إن "الكاتالوني يعيش ليعمل والإسباني يعمل ليعيش".

والكاتالونيون عنيدون، تمثل ذلك في رئيس حكومتهم (بوخول) ذي القامة القصيرة الذي يلقبونه "القاتل الصغير"، فهوالذي عزف أمام فرانكو ديكتاتور إسبانيا السابق لحنا كاتالونيا محظورا فسجنه ثلاث سنوات، وبوخول هذا يتكلم ست لغات بطلاقة ويتجول في العالم وهو الذي جعل من إقليم كاتالونيا جسرا ما بين إسبانيا وأوروبا.

الكاتالونيون صعاب المراس عنيدون، ظلت بلادهم آخر معقل سقط في حرب إسبانيا الأهلية، فانتقم منهم جيش فرانكو، بحرق مخطوطاتهم وعينوا من يراقب عدم استخدامهم للغتهم في المدراس، وأمروا الأهالي بالتحدث بالإسبانية فقط، ولكنهم حافظوا على لغتهم، فليس هناك ما يفسر بقاء اللغة الكاتالونية حية سوى عناد هذا الشعب وعنفوانه، ولعل ذلك ما يفسر نصيحة أحد رجال أعمال ياباني بضرورة الإلمام باللغة الكاتالونية، فهي كما قال: "إنها المفتاح، لكل الأبواب في إسبانيا". إنهم يمتلئون برغبة جادة في بناء بلادهم. يعرفون كيف يتعاملون مع العالم، الذي يشهد أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة. وهم يتطلعون بهمة إلى تخطيها بسبب القدرات الصناعية التي يملكونها، ولذا تطمح حكومة الإقليم بتأسيس دولة مثل هولندا أو الدنمارك في جنوب أوروبا، بمعنى أنهم بلد صغير ولكن بصلات تجارية قوية مع بقية العالم. ويريدون أيضا تعزيز اللغة والثقافة الكتالونية في جميع مجالات المجتمع، والاعتراف بهم ككتالونيين وليس كإسبان. وهذه هي غايتهم من الانفصال.

ولكن هذا لا يعني أن الانفصال سيكون له عائد اقتصادي جيد على الإقليم بحسب تقرير بنك "ناتيكسيس" الإسباني، فإن برشلونة تخسر الكثير بالانفصال حيث ستصبح عاصمة دولة ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، ونتيجة لرفض أغلب دول الاتحاد للاستفتاء، فإنه سيكون هناك مقاطعة اقتصادية من مدريد وباقي الدول الأوروبية، وسيكون هناك فوضى عند إلغاء التعامل باليورو، ما يعني مستقبلا غامضا للإقليم.علما بأن هناك إجراءات عقابية جاهزة من إسبانيا وبروكسل بسبب الاستفتاء بالفعل، ولا توجد أي دولة عظمى تدعم الاستفتاء. من المتوقع أيضا أن تطال الأضرار نادي برشلونة الرياضي، حيث سيمنع من المشاركة في الدوري الإسباني مما يعني أنه لن يستطيع اللعب في دوري آخر سوى الدوري الفرنسي، وحتى هذا الخيار لن يكون ممكنا لأن باريس ترفض الاستفتاء أيضًا. وإذا كان سيلعب في دور كتالوني منفصل فسوف يكون مشاركا في بطولة ضعيفة المستوى لن ترقى إلى مكانته العالمية السابقة.

حسنا. هذه (كاتالونيا) التي تريد الانفصال والحكومة الإسبانية لا تريدهم أن ينفصلوا ولا أعتقد أنكم في حاجة لتعرفوا أسباب عدم موافقتهم، وأنا على يقين أنهم سوف ينفصلون.

أنا في الواقع، جمّعت هذه المعلومات لأرفعها إلى صديقي الذي يصر على ضرورة انفصال إقليمه عن بقية أقاليم ليبيا لأقول له: "كاتالونيا - يا صديقي- لديها تفوق تجاري عالمي وعوائد ناتج قومي كبير، ولديهم صناعة وزراعة وتجارة وسبعة أنهار ولهم لغة واحدة وتعدادهم 7560.000 مليون نسمة. ومنحدرين من جنس واحد ويربطهم نادى برشلونه، الذي يربط أيضا بعض أبنائك، ولا أعتقد أن إقليمك الذي تريد أن تنفصل به عن بقية ليبيا يملك غير(الستر!)؛ لا موارد حقيقية سواء أكانت صناعية أو زراعية أو ثقافية. لا بنية تحتية ولا فوقيه، لاشيء إلاّ الستر ومع ذلك تصّر على أن الحل في المشكلة الليبية هو الانفصال".

ليس لديَّ ما أضيف سوى أن الأفكار كلها قد تكون مدخلا لاستقرار ليبيا إلاّ الانفصال. قد نلجأ إلى الفيدرالية، أو الحكم الذاتي أو أي خارقة أخرى إلاّ التقسيم فهو كارثة بكل المقاييس على المنفصل تحديدا بمن فيهم مشجعو (البرشه).