Atwasat

إسمنت الهوية ووهم العيش المشترك

سالم العوكلي الأحد 06 أغسطس 2017, 10:25 صباحا
سالم العوكلي

"العيش المشترك في ليبيا وفي مجالات جغرافية أخرى" مؤلف جماعي هو "ثمرة مجهود مشترك بين باحثين في اختصاصات متعددة تناولوا من زوايا مختلفة (موضوع الندوة). وقد تم ذلك في إطار ندوة دولية التأمت بمؤسسة الأرشيف الوطني التونسي يومي 5 و6 مايو 2016، ونظمها مركز البحوث والاستشارات في جامعة بنغازي، ومخبر تاريخ الاقتصاد المتوسطي ومجتمعاته (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس) بدعم من مؤسسة أكتد (Acted ) وبتمويل من وكالة التنمية السويدية (SIDA)".

هذا جزء مما ورد في مقدمة المؤلَّف الذي جمع نصوصه وأعدها للنشر، رياض بن خليفة.

زخر هذا المؤلَّف بأوراق بحثية غاية في الأهمية، لكني سأركز على ورقة الباحث، باتريس مايار ـ بيتش، أستاذ الفلسفة بالمعهد المتعدد الاختصاصات للأخلاقيات وحقوق الإنسان، بجامعة فريبورغ "ممارسة الحقوق الثقافية في أوضاع يسودها العنف"، نظرا لأهميتها ــ ولكونها وثيقة الصلة بأهمية الحقوق الثقافية داخل منظومة حقوق الإنسان، ولعل ما جعلني أركز على هذه الورقة، التي يبدأها الباحث باقتباس عن النص المؤسس لليونسكو "بما أن الحروب تنشأ في أذهان البشر، فيجب أن تقام دفاعات السلم في أذهانهم"، وعلى مدخلها النظري بشكل خاص ــ كون مرتكزاتها النظرية لها علاقة وثيقة بما يحدث في المنطقة، وخصوصا ليبيا التي تستيقظ فيها نزعات عدائية تتعلق بالتباين الثقافي، تهدد مبدأ التعايش فيها وسلمها الاجتماعي، وأخص ما يأتي في سياق عدم استيعاب التنوع الثقافي الذي تمثله، اللحظة، فتاوى تكفيرية ضد الإباضية تصدر عن مؤسسة رسمية ليبية (يبعد مقرها أمتارا عن مقر هيأة صياغة الدستور)، كنموذج لاختلاف معرفي جزئي يتحول إلى صلب العقيدة ومن ثم صلب الهوية، وهي فتوى تنتهك مبادئ حقوق الإنسان، بل تتجاوز جوهر الدين المنبثقة عنه، وتهدد السلم الاجتماعي، باعتبار أن الحروب تنشأ في الأذهان قبل أن تصبح واقعا دمويا فوق الأرض.

الأنظمة القمعية المتسلطة تعمل كل ما تستطيعه لتيسر العيش المشترك بين الأفراد في إطار جمهور طيع وغير متمايز

يقول باتريس: "إن أسبابا عديدة دون شك، تكمن وراء الأوضاع العنيفة، سواء أكانت تتطور داخل العائلات أو تخترق المجتمع، وسواء أكانت "عادية" أو اتخذت الأشكال القصوى للإرهاب. لكن في المبدأ، توجد سلاسل من الإهانات، وعدم المعرفة بالصبغة الحاسمة لـ "القيم الثقافية" في إطار ثراء تنوعها. وعلى العكس من ذلك، تعد الموارد الثقافية هي القوى الأولى للاتصال، ومن ثم للسلام في نطاق التفاهم. نحن إما نكون في قلب الكرامة والعزة ... أو في الطرف المقابل: في الخزي، فإننا في صميم الموضوع" وبهذا المدخل الخصب ينفذ إلى زحزحة اليقين الحاد في المقولة الشائعة "العيش المشترك" والتي تعج بها الخطب السياسية.

وهي صيغة غير كافية لتحديد الهدف الحقيقي من السلام، سواء في النظم الشمولية التي تفرض العيش المشترك غصباً، أو في المجتمعات التي تعيش تحت سيطرة الليبرالية الجديدة "التي تتعامل مع الأفراد بوصفهم جمهورا من المستهلكين المتعودين على العيش المشترك في نطاق التوزيع الواسع". ولأننا نتاج موضوعي للنوع الأول من صيغة العيش المشترك، فسأركز على هذا السياق المعني به مجتمعنا.

فالأنظمة القمعية المتسلطة "تعمل كل ما تستطيعه لتيسر العيش المشترك بين الأفراد في إطار جمهور طيع وغير متمايز، وتتمكن من ذلك لمدة من الزمن إلى حد أنه أثناء مسارات الدمقرطة، تعبر أعداد من السكان الذين يواجهون الحيرة والفوضى الاجتماعية بصورة شبه علنية، عن تحسرهم على وضع الدكتاتورية السابق".

وهذا بعض ما يفسر عودة الحنين بشكل مَرَضي إلى زمن الطغيان، الذي مرده وهم الأمن والعيش المشترك الضائع الذي مزقته الرغبة في الدمقرطة، غير أن وهم العيش المشترك الذي تم لفترة في نطاق دولة الإكراه، سرعان ما يتعرى مع زوال مصدر الإكراه، لندرك أن مفهوم الانصهار الوطني أو التعايش كان يشبه إجبار عناصر كيميائية خاملة على التفاعل باستخدام الضغط العالي، والعيش المشترك مجرد هدنة مؤقتة يرعاها الخوف من السلطة المستبدة. ورغم الاختلاف البنيوي بينها، لعل العراق وسوريا وليبيا النماذج الواضحة لهذا التعايش القسري، ولاختلال النظرة التقليدية للهوية كعامل أساسي في هذا الصراع الذي في النهاية تديره بطريقتها "الهوية المهيمنة" تحت ظلال من نشر الخوف، أو الهوية كمعطى جامد ومحدد وأزلي، والتي تعاني في المقابل من حالة خوف وشلل ودوار، تتم محاولات ردعها أو إخفائها بأساليب مختلفة من العنف، أحدها "التفكير الأحادي والذي يفرض "استتباب السلم" عن طريق الجهل والخوف. وللاحتماء من الدوار يكون الحل في تأكيد الهوية وكأنها إسمنت".

نشر الجهل والخوف كان أسلوب النظام السابق الذي تعامل به مع هذا الحيز الاجتماعي الذي يعج تاريخه بحروب قبلية وجهوية وإثنية، لذلك كان الانضمام إلى الجوقة القومية أحد تجليات نمط التفكير الأحادي، الذي حول الهوية إلى قالب إسمنتي، وهو سلوك قد يقوم به فرد مستبد أو جماعة أو حزب فاشي، تخدمه خطب رنانة أو فتاوى شرعية تستخدم الدين كوسيلة لإقصاء الإثنيات الأخرى تحت شعارات دينية أو فتاوى هي في جوهرها قومية فاشية. ومع انتهاء السلطة العنيفة تستيقظ نعرات مكبوتة عاشت في ظل الاستبداد، تربت في ظل الخوف والجهل، ولا تقل عنفا عن ملهمها: المستبد السابق، مستغلة سقوط مقولة العيش المشترك مع سقوط القوة الفارضة لها.

هل ثمة حرص في الصياغة على التعامل مع الهوية كتفاعل تاريخي ثقافي وليس قالبٍ إسمنتيٍ صبته الأغلبية المهيمنة وفق تصورها الأحادي

من هذا المنطلق، وفي صدد نقد باتريس لشعارية "العيش المشترك" يطرح البديل المتمثل في شعار مدينة ران الفرنسية وهو "العيش في تفاهم" ليدخل هنا الفعل الثقافي كبديل للضغط السياسي في التأصيل لنوع من التعايش، أو كما يوضح الباحث أفضلية "العيش في نطاق تفاهم" على "العيش المشترك" إذ من خلال الأول يبرز "المبدأ الذي تنبني عليه حياة الجماعة: التفاهم، بمعنى آخر: تبادل المعارف باعتبارها موارد ثقافية. إن الحقوق المعنية في مجال حقوق الإنسان، هي في المرتبة الأولى الحق في التربية، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية. فهذان الحقان يجعلان بقية الحقوق المدنية والبيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ممكنة التحقق. وإنه ليتوجب علينا من أجل أن نعيش بصفة جيدة معا، أن نحترم تنوع المعارف ونتقاسمه".

فهل تفطن مدبجو الدستور لهذا المبدأ الجوهري المتمثل في فكرة التفاهم (ببعده الثقافي بما يشمل من تعددية في اللغة أو المذاهب أو غيرها من الأنماط الثقافية) كمرتكز للتعايش؟. وهل ثمة حرص في الصياغة على التعامل مع الهوية كتفاعل تاريخي ثقافي وليس قالبٍ إسمنتيٍ صبته الأغلبية المهيمنة وفق تصورها الأحادي؟. وهل تجلى الطموح الديمقراطي لهذه الدستور في التعامل مع المواطنة كركيزة أساسية للتعايش؟. لأن أي دستور مازال يضع مسألة "الأقلية" في مادة حقوقية أو أكثر هو قاصر ومشرِّع للعلاقات الظالمة، وأي دستور لا يعتمد مادة "حرية الاعتقاد" في واجهة باب حرياته، هو مجرد دسترة للإرهاب الفكري، ولا يصلح حتى لأن يكون ورقا للتواليت.