Atwasat

مجرد ذكريات: سلالةُ بن حليم الحلقة الأخيرة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 01 أغسطس 2017, 10:14 صباحا
أحمد الفيتوري

1-
سردية بن حليم تحفلُ وتُعنى في فصولها بمشكل نظام الحكم هوية الدولة، ولا يشغلها البتة ما سيُعرف بـ "هوية الوطن"، وفي المتن يذكر كثيرا أن هوية الدولة بدأت مطروحة عند مصطفي بن حليم رئيس الوزراء ثم فيما بعد استقالة حكومته وحتى بعد أن غدا رجل أعمال وترك العمل السياسي، ويذكر قلق محمد إدريس السنوسي الملك - الذي لم ينجب وريثا- حول نظام الحكم، ويبين أنه تدارس والملك هذا المشكل،وأنه تمت الاستعانة بشخصيات قانونية وسياسية مثل أدريان بلت الهولندي الذي كان مندوب الأمم المتحدة قبيل الاستقلال، ويشير في تفاصيل كيف تمت دراسة أن يعدل الدستور فتصبح ليبيا دولة جمهورية وأن يكون الملك رئيسا مدى الحياة وعند وفاته يتم انتخاب رئيس من الشعب!. وفي هذا المضمار يلح في توضيح دوره ويقص القصص لإسناد مهمته وللتوكيد على أن هوية الدولة كانت مسألة ملحة ومطروحة منذ النشأة.

بن حليم ولد ودرس في مصر التي حينها تموج بتيارات فرعونية ومتوسطية وعروبية وإسلامية وأممية

لكن هذه المسألة ليست لها علاقة بهوية الوطن و"الشخصية الليبية" التي تقلق آخرين خاصة مع المد القومي العروبي الجموح وأضداده من طرح أممي يساري وأممي إسلامي، فالمذكرات تبدو مسألة الهوية عندها من الأوهام، رغم أن بن حليم ولد ودرس في مصر التي حينها تموج بتيارات فرعونية ومتوسطية وعروبية وإسلامية وأممية، لكن بن حليم الذي شغلته مسألة حدود البلاد فترة رئاسته للحكومة عرف أن "الجيوسياسي هو الهوية الواقعية"، وكسياسي محنك ورجل عملي وجد أن هوية المرء تحددها الجنسية التي يحمل والحدود الجغرافية التي رسمت عقب الحرب الكبرى. ولذا فإن مسألة هوية الدولة تبدت في المتن مسألة المسائل، وواقعيته كرجل سياسة ومن ثم رجل أعمال جعلته في البدء يراسل قادة انقلاب سبتمبر العسكريين ويراهن على مُكنة التعاون معهم.

2-
لفت نظري حين كتابتي عن كتاب "مذكرات بن حليم": أن في لحظة صدوره سنة 1992م صدر أيضا كتاب مهم في موضوعة التاريخ السياسي الليبي: "وثائق جمعية عمر المختار- صفحة من تاريخ ليبيا" للسياسي المعارض زمن العهد الملكي محمد بشير المغيربي، والطريف أني حصلت على الكتابين في ذات اللحظة وبالمصادفة المحض. لكن السؤال يظل حول صدور الكتابين في لحظة زمانية واحدة، خاصة وأن المذكرات تحوي التاريخ من وجهة نظر شخصية رئيس حكومة في العهد الملكي، وأن الكتاب الثاني وثائق فحواها معارض للسلطة التي يمثلها صاحب المذكرات. وقبل أريد التوكيد أني كنت طالعت كتاب "وثائق جمعية عمر المختار" حين صدوره، وكتبت لحظتها عنه ونُشر مقالي بجريدة "العرب" الصادرة بلندن والتي كانت توزع بليبيا التي مُنع الكتاب من التوزيع فيها، وإن طالعت "المذكرات في حينها فإني لم أكتب عنها ولم أفطن لمصادفة النشر المتزامن هذه.

لحظة كتابتي عن "المذكرات" طالعت كتاب "الوثائق" ولفت نظري وثيقة كنت منذ مطالعتي الأولي قد اهتممت بها، وهي "الوثيقة رقم 10" المعنونة بـ "النائب مصطفي بن عامر يتلو كلمته تحريريا حول الميزانية العامة"، وقد تُليت "بعد أن فاز الأستاذ مصطفي بن عامر بعضوية مجلس النواب عن دائرة الشريف ببنغازي في الدورة الرابعة والأخيرة من الهيئة النيابية الأولى، شهد جلسات المجلس لمناقشة ميزانية الدولة وألقى البيان الذي أورده- كتاب الوثائق- كاملا، من مضبطة الجلسة الخامسة عشر لمجلس النواب المنعقدة بمدينة طرابلس بتاريخ 9 أبريل 1955 برئاسة السيد عبد المجيد كعبار وحضور الحكومة برئاسة السيد مصطفي بن حليم.

كتاب "وثائق جمعة عمر المختار" الذي هو كتاب عن المعارضة في دولة ليبيا الحديثة يستحق الدراسة والبحث

وهذه الكلمة عبارة عن نقد حاد للميزانية ويبين أنها إهدار للمال العام من قبل الحكومة وذلك لأن الميزانية عبارة عن مصاريف استهلاكية على الدولة والحكومة والوظائف العامة ومن ثم الديوان الملكي، وتفصل الكلمة كيف أن ما جبته حكومة بن حليم بالتفريط في السيادة من خلال تأجيرها أرضا ليبية لقواعد عسكرية أجنبية تهدره على تأثيث مباني الوزرات وما شابه... إلخ، هذه "المُعارضة" لم يلتفت إليها بن حليم في متن مذكراته التي فيها ذكر أنه داعم للمعارضة، بل أنه كان من المعارضين في الخفاء حيث كتب مقالات تهاجم حكومته تحت اسم مستعار في جريدة "الرائد" التي كانت تصدر حينها، ولعل هذا الإشكال الذي تطرق له المعارض مصطفي بن حليم قد وضح أن الدولة الوطنية دولة استهلاكية حتى وهي الدولة الفقيرة، وأن الإنتاج لم يكن مسألة ملحة في لحظة التأسيس تلك، وهذا المشكل ظل قرين هذه الدولة في فتراتها اللاحقة وخاصة في المنطقة العربية، واستبعد الصوت المعارضة وفي فترة "الانقلاب 1969- 2011م" تم كبت وشنق هذا الصوت.

3-
إن مذكرات بن حليم كتاب مثير ويثير مسائل عدة ومع كتاب "وثائق جمعة عمر المختار" الذي هو كتاب عن المعارضة في دولة ليبيا الحديثة يستحق الدراسة والبحث، وأن تقوم جامعة طرابلس وجامعة بنغازي بعقد ندوة موسعة، يُشارك فيها بُحاث وشخصيات عاشت المرحلة ومازالت حية وبذاكرة ثاقبة، وأن يُعاد طبع الكتابين وما كُتب عنهما. بل أرى أن تدعم عائلة "بن حليم" والدولة الليبية مشروع مسلسل تلفزيوني لما تحتويه "المذكرات" من صيغ درامية وقصص مما يوفر مكنة كتابة سيناريو محكم لمختص بارع. إن عملا كهذا ليس مبحثا في الماضي ولكنه استكناه للمستقبل، ودرس خصب لأن في الإمكان أبدع مما كان.