Atwasat

الأراضي المنخفضة.. قليل الجهد يعيش

سعاد سالم الثلاثاء 23 مايو 2017, 10:24 صباحا
سعاد سالم

كنت أحك باطن كفي حينما حك إبهامه مع السبابة رافعا يده وقال: "خيلد" النقود في الطريق إليكِ. وفوجئت فعلا. إذ اعتقدت أنها إيمان ليبيٌ خالص، ماهذا يا عمي الهولندي. اترك لنا شيئا. ذاك كان جاري العجوز.

الأورو كما يُنطق بالهولندية كان سبب تعاستي في العام الأول من إقامتي هنا، كنت أعامله كدينار ليبي، ولا أستطيع تمييز الفرق بينهما إلا بعد سقوطي قبل منتصف كل شهر في الإفلاس التام، وفي المخبز تحديدا ترن في ذاكرتي وأنا أنتقي منه حاجتي بعض مفردات القذافي عن سعر الخبز في أوروبا، كان يقيّمه باليورو وأجاهد لأتذكر الرقم.

أخذ الارتباك المالي الوقت الكثير من أعصابي حتى فهمت أخيرا كيف أنجو بدوري من هذه الدوامة التي ينجو منها الناس، فتمتليء بهم الأسواق والمقاهي والمطاعم في عطل نهاية الأسبوع، فضلا عن أنهم في مقدمة الشعوب التي تسافر خارج البلاد في العطلات، وكنت حاولت فعلا وبالتحري الشخصي معرفة كم يبلغ متوسط الدخل في هولندا وأظنني ساعتها لازلت أفكر بطريقة تقليدية، فمع الوقت اكتشفت أن ليس مهما كم تبلغ قيمة الدخل، بل المهم كيف تتم إدارته، وأن الأمر غير متروك فقط ليتعامل معه أصحاب المهارات الشخصية في إدارة دخولهم، فكلنا مر بنا أولئك المهرة وغبطناهم على كسب مالم نكسبه بالقدر ذاته من مالنا، ومن ثم أحزننا بسبب علاقته بالذكاء كما قررنا، ولو كنا هنا لكانت هذه الرأسمالية المهذبة ساعدتنا بقسطرة سريعة ولوازنت قيم السوق جانبي الدائن والمدين في دفاتر حساباتنا ولعرفت كيف تحولنا بمالنا القليل إلى شعب مرتاح وسعيد.. لا في المطلق، ولكن بقياسات خاصة تصدر دراساتها سنويا عن سعادة الشعوب.. الهولنديون في الترتيب السادس على القائمة لهذا العام.

من أهم أشكال اللباقة والاندماج معرفة عادات المجتمع الهولندي ومنها ألا تسأل عن مرتب أحدهم

(لفلوس يديروا طريق في البحر) والنقود تعيد صياغة الابتسامة كما قال كاتب ما، إذ يقدر الهولنديون عملتهم الأورو جدا، ويستحق ذلك لأنه يصنع فارقا كلما أضيف على بطاقة السعر لسلعة ما، وهذا التقديراحترمه السوق وترجمه التنافس إلى عروض تخفيضات وبطاقات نقاطها تمنحك المزيد من التخفيضات فقط اطلبها واملأ استمارة هنا وأخرى هناك، إنها الاستجابة لمتطلبات الواقع. هكذا أختصرُ الأمر، وليست حلولا سحرية أو إنسانية بقدر ماهي معالجات ذاتية، فالاقتصاد الرأسمالي كما أقرأه ليس مغرورا ولا متعنتا، ولا يمانع في الاستعانة بقوانين من خارجه لينقد نفسه، كما يطبق في ذاته قانون المنفعة الحدية الذي أنتجه ومن ناحية أخرى لايجد الناس صعوبة في الإنخراط في السعادة منخفضة التكاليف، في صورتها النمطية الاستهلاك،وهذا ليس سيئا في علم الاقتصاد.

من أهم أشكال اللباقة والاندماج معرفة عادات المجتمع الهولندي، ومنها ألا تسأل عن مرتب أحدهم، فهي حشرية غير مقبولة. دعوني أتجرأ على القول أنها تعدٍ على حرية هذا الأحدهم وتحرش بالخصوصية.. طبعا أنا فقط ألعب بالكلام ولكن في تصوري أن الأمر أخذ الشكل الاجتماعي الحساس بسبب مايجره الحديث عن المال هنا إنها "الضرائب".. هذا مجرد تخمين.

"المظروف الأزرق " للكاتبة والروائية مرضية النعاس، كانت لتظل رواية كلاسيكية بديعة لبنت قرأتها مبكرا لأكثر من أربع مرات، وما كان خطر في بالي أن مصلحة الضرائب الهولندية اختارت المظاريف الزرقاء لترسل سنويا مايقرب من 160 مليون منها، ما يسبب القلق لبعضهم، والغضب لبعض آخر، وتضيف للناس مهامَّ ليست تقترب في شيء من مهام مظروف مرضية الأزرق بالرواية.. ولكنها تصنع مجتمعا متكافلا ً قليل الجهد فيه لايموت و"الحوت الكبير" لاتسمح الحكومة بأن يأكل "الحوت الصغير".. على فكرة، تقتطع الحكومة مبلغا شهريا من دخل الفرد ليتراكم طوال العام وتدفعه إلى حسابه غالبا في نهاية مايو لغرض العطلات.. شخصيا أنتظرهُ بغاية الشوق.

لا ينجب الهولنديون أطفالا كثيرين الآن، طبيعة الحياة الاقتصادية تؤثر اجتماعيا إضافة إلى أن المرأة الهولندية المتساوية مع الرجل تعطي لنفسها وقتا وتقديرا ذاتيا عاليا، ولكن عندما يقرر الزوجان الإنجاب تقدم الحكومة دعما في شكل علاوة للوالدين من مال الضرائب، العلاوات التي تغطي أيضا الإيجارات والرعاية الصحية لأصحاب الدخول المحدودة وبالمناسبة، ارتفاع الثقة في الحكومة، تراجع انعدام المساواة، انعدام الفساد، نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الحرية هي بعض المقاييس التي تحدد قائمة الشعوب السعيدة، التي تصدرها الأمم المتحدة منذ العام 2012.

عموما قابلني هذا الاحتجاج الصغير أكثر من مرة: لماذا أزحتم القذافي إنه يمنح المواليد علاوة 5000 دولار، كنتم أغنياء وسعداء أليس كذلك؟. هيا يافتاة.. ماهذا البطر؟. الهولنديون تقريبا لايعرفون ليبيا كل المحجتجين كانوا عربا أو أفارقة.. حسنا يا أعزاء الفتاة لاتتوقف عن التعلم، لذا لم تعد تعلق على كل شيء .