Atwasat

قصة حب بين البكوش وأم السعد

سالم العوكلي الأحد 14 مايو 2017, 09:46 صباحا
سالم العوكلي

في العام 1951، نالت ليبيا استقلالها من بين أنياب القوى المتربصة بهذه الجغرافيا، رغم كل المشككين الذين كانوا يرون أن لا مقومات دولة لهذا الميراث الفاشي الذي مازال أمامه معارك طويلة مع الفقر والجهل والتخلف، لكن المؤمنين بطاقات هذا المجتمع لم يتخلوا عن الحلم، ومن تحت الصفر تقريبا بدأت المعركة، لا زاد لها سوى التكنوقراط الذي تعلموا وعملوا مع الطليان، أو أبناء الأسر الميسورة الذين أتيحت لهم الدراسة في دول عربية مجاورة، أو أعيان القبائل الذين أعطتهم الفترة الاستعمارية والتجربة الاجتماعية حنكة التعامل مع تناقضات المجتمع والتأقلم مع فضاء الدولة. بدأت المعركة بتأهيل الإنسان بدنياً فشنت حربها على الأمراض والأوبئة والجرب والقمل والتراكوما والأنيميا، وميراث الفاشية من الضغينة، والفقر المدقع، وانعدام أية موارد، والأمية التي تتجاوز 95%.

وخطت ليبيا خطوات مهمة في هذه المعركة ولا مصدر دخل لها سوى إيراد عقد إيجار لقواعد إنجليزية وأميركية لمدة 20 عاما، ثم كان اكتشاف النفط في هذه الأرض القاحلة مكافأتها السخية لصبر قرون كاملة من الحرمان والانتظار، وبعد بداية إنتاج النفط زادت وتيرة خطط بناء الدولة، وتعاقبت الحكومات بشكل مطرد وسريع، إلى أن وصلت إلى 11 حكومة في 18 سنة، وربما هذا التغيير المستمر هو ما خلق نوعا من عدم الاستقرار الإداري الذي بدوره قلص من إمكانية تعميق الدولة وتثبيت بنيانها ما جعلها في مهب ريح الانقلاب.

وفي خضم تعاقب هذه الوزارات التي كانت تكتفي بمهمة الأداء الإداري والخدمي دون تكريس رؤية استشرافية واضحة، تأتي وزارة السيد عبد الحميد البكوش، الشاب المحامي المحمول على إستراتيجية بعيدة تتعلق بالمزج بين الكيانين؛ المادي والمعنوي، بين التقدم والهوية، بين الانفتاح على العالم والخصوصية.

ومازال حزن البكوش وحزننا مستمرا للأسباب نفسها، ونحن نرى هذا الكيان يتصدع كبناء طيني هش

حين كان البكوش رئيسا للوزراء كان عمري 7 سنوات، لكن ثبت هذا الاسم في ذهني حين أحضر لي والدي في أحد الأعياد بدلة سوداء مع ربطة عنق، فسماني أحد أقاربي (البكوش) وعلق بي هذا الاسم لفترة، لكن معرفتي له فيما بعد لم تتعد حضوره كمعارض مثقف وشاعر وعاشق لليبيا التي كان يسميها "أم السعد".

أما ما لفت نظري له كرئيس وزراء سابق، وصاحب مشروع، واقعة حدثت أثناء حضوري لمناسبة اجتماعية في قريتي (القيقب) العام 2014، حين استرقت السمع لرجل كهل وأنيق يتحدث بإعجاب عن د. محمود جبريل، فاقتربت منه حين انتهى وسألته: ما الذي يعجبك في جبريل؟ فقال لي ما مفاده: يذكرني بعبد الحميد البكوش، مثقف وفاهم ولديه رؤية واضحة وطويلة المدى للبلد، أحس أن هذا الرجل سيكون امتدادا لمشروع البكوش الذي أجهض في مهده.

من هذا المنطلق على أية حكومة مقبلة تتصدى لإعادة ليبيا أن تطلع على مرحلة حكومة عبد الحميد البكوش لتجد نقطة انطلاقها، تلك الحكومة التي لم يزد عمرها عن عشرة شهور (25 أكتوبر 1967 ــ 4 سبتمبر 1968) حيث قدم البكوش استقالته بعد ما لاقى مشروعه التحديثي؛ الذي يشبه في منطلقاته مشروع مهاتير محمد في ماليزيا، من عراقيل وتحفظات ولم يتجاوز عمره وقتها 36 عاما، لكنه كان مثقفاً متحمساً يملك رؤية حقيقية لنهضة ليبيا وتعزيز هويتها ورفاهية شعبها، وكان أهم ما في مشروعه مبدأ خصوصية الشخصية الليبية الذي استلهمه من الكاتب المفكر يوسف القويري حيث أعلن شعاره: ليبيا أولاً، وفي فترته القصيرة حقق زخما هائلا من الإنجازات في إعداد التشريعات القانونية لتحديث مؤسسات الدولة بما يتناسب مع العصر، ووضع النظم الإدارية العصرية بما يتبعها من رقابة صارمة ومن مظهر أنيق للمؤسسة والموظف الإداري، والرقابة على الإنفاق الحكومي والشفافية العالية لوجوه الصرف، وتنظيم ضرائب الدخل على المؤسسات والأفراد، وإعادة هيكلة وزارة الخارجية بما يخدم تطلعات المجتمع للتقدم عبر توثيق علاقات التعاون مع الفضاءات الحضارية والاقتصادية المهمة، وإعداد مشروع عصري للأحوال الشخصية يناصر المرأة ويدمجها بقوة في خطط بناء الدولة، ومضاعفة أعداد الطلاب الدارسين في الخارج، خصوصا في أميركا، إضافة إلى تقرير تعلم اللغة الإنجليزية من المرحلة الابتدائية، والتفكير في دراسة المراحل الإعدادية الثانوية والجامعية باللغة الإنجليزية خصوصا الجانب العلمي منها، وقوننة نظام التوظيف والتقاعد وصرف علاوة السكن والعائلة لجميع موظفي الدولة كتشجيع لزيادة النمو السكاني في هذه الجغرافيا المترامية الأطراف، لكن رؤيته المتعلقة بتنمية روح الانتماء الوطني والتسامي على الجهوية والقبلية، والحث على عدم إذابة الهوية الليبية في أي سياقات خارجها، شكلت المحتوى الفكري لمشروعه التحديثي الذي لم يُقدر له الاكتمال بسبب معارضته الشديدة من التيارات المحافظة والنزعات القومية والناصرية وغيرها من الشعارات الصادحة آنذاك، والتي اضطرته في النهاية للاستقالة بعد تصادمه مع العقل المحافظ ومع الحاشية التي ألبت الملك عليه مما أدى إلى فقدان الثقة بينهما، خصوصا حين رفض الملك اقتراحه بإعادة هيكلة الجيش الليبي بسبب محاولات تسييسه وتغلغل التيارات القومية والناصرية والبعثية داخله، والتي كانت تدين بولائها لقيادات خارج الوطن.

ومثلما نفُيت الكثير من الكفاءات الوطنية بعد الهيجان الثوري الذي أعقب انتفاضة فبراير، خرج البكوش العام 1977 إلى منفاه في مصر بعد أن قضى سنوات بين السجن والإقامة الجبرية متحسراً على وطنه الذي رآه يحث الخطا صوب الهاوية وسط ضجيج من الشعارات الثورية والهتافات الهستيرية، ولم يتوقف طيلة عقود نفيه عن الكتابة عن وطنه نثرا وشعرا، ولم يغادر سؤاله الذي كان محرك مشروعه حيال الهوية والانتماء، ليعبر بعد عقود عن حزنه في ما آلت إليه الشخصية الليبية من تيه في الهوية الملتبسة بعيدا عما يسمى الانصهار الوطني بعد عقود من التأرجح بين الأممية والجهوية الضيقة، قائلا: "لقد كنت أحزن كثيراً وأنا أرى الليبي هائما في وطنه بلا شخصية، ولعلها من صروف القدر أن أجد أني لا أزال حتى اليوم حزيناً بل وأكثر حزناً عما مضى على أهلي من الليبيين والليبيات لا لأنهم قد وقعوا في الأول من سبتمبر 1969، في قبضة المجهول فقط، بل لأنهم مازالوا بلا شخصية يعانون شرودا في إحساسهم بالانتماء، فهم يتصرفون اتجاه ما حل بهم فككاً، من كل موصول بينهم وكأنهم لم يكن لهم ماضٍ ولن يكون لهم مستقبل."

ومازال حزن البكوش وحزننا مستمرا للأسباب نفسها، ونحن نرى هذا الكيان يتصدع كبناء طيني هش.