Atwasat

اختلاط الصفار بالبياض

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 12 مارس 2017, 10:52 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

في الدول المعاصرة (المعاصرة بالمعنى الحضاري وليس الزمني فقط. أي: الدول الديموقراطية)، تتبع المؤسسة العسكرية قيادة الدولة السياسية، مثلها مثل أية مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة. أما في الدول "ما قبل المعاصرة" (ومرة أخرى: بالمدلول الحضاري وليس بالمعنى الزمني)، يحدث أن تقوم المؤسسة العسكرية بانقلاب على السلطة السياسية وتستولي على جهاز الدولة وتصبح السيد الأوحد للدولة والشعب. وفي هذه الحالة تستدخل البعد السياسي في طبيعتها العسكرية بحيث يمتزجان، مثلما يمتزج صفار البيضة الفاسدة ببياضها، وتصبح مؤسسة عسكرية-سياسية، في نفس الوقت، وتقود نفسها بنفسها.

ولأنها تغتصب مؤسسات الدولة فإنها تديرها، غالبا، بطريقة تعسفية، ما يجعل المعايير والمقاييس تضطرب وتختلط، وكثيرا ما تلجأ إلى تعطيل الدساتير، أو تعديلها أو استبدالها، وفق معايير كيفية [مزاجية]، أو تلجأ إلى إلغاء وجود الدستور نهائيا وتعلن قوانين طواريء تستمر عقودا. وبشكل ما يتم تطبيق معايير وقوانين الحياة العسكرية على الحياة العامة للشعب فترتبك حياته ويعاق تطوره ويدخل في نمط عيش غير سوي.

المؤسسة العسكرية معادة البناء من المفترض أن تكون تابعة لقيادة سياسية شرعية وهي تلك التي تتمثل حاليا في مجلس النواب

في الحالة الليبية، سيطرت المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة منذ نهايات 1969، وحاولت عسكرة الدولة. لكن قائد الانقلاب سرعان ما انتبه إلى خطورة تقوي المؤسسة العسكرية لأنها يمكن أن تطيح به في أية لحظة، فعمد إلى عمليات منظمة تؤدي إلى إضعافها، واستمر في مخطط عسكرة المجتمع بطريقة أخرى لا تكون اليد الطولى فيها للمؤسسة العسكرية، ولكن يتحكم فيها هو شخصيا وفق رؤاه الخاصة ومزاجه الشخصي. إنه جيش يتبع زعيما ولا يتبع مؤسسة. جيش لا يمكنه القيام بالانقلاب على السلطة القائمة.

لذا وقعت ليبيا في مستنقع التشظي والانقسام والاحتراب الداخلي والارتهان لقوى خارجية متعددة ومختلفة الأهداف بعد الحراك العام السلمي الذي سرعان ما تعسكر وأطاح بنظام معمر القذافي سنة 2011. لأنه لم تكن توجد مؤسسة عسكرية يمكنها أن تكون صمام أمان للوضع العام وحامية للسلم الاجتماعي والاستقلال الوطني. وحين تمت محاولة إعادة بناء هذه المؤسسة، بعد 2011، وخاضت حربا عاتية ضد الإرهاب بذلت فيها تضحيات جمة، راودتنا الآمال بأن الأمور سائرة باتجاه تحقيق الحد الأدنى من الاستقرارالمطلوب حاليا.

المؤسسة العسكرية معادة البناء من المفترض أن تكون تابعة لقيادة سياسية شرعية، وهي تلك التي تتمثل حاليا في مجلس النواب، وذلك بغض النظر عن موقفنا من آداء هذا المجلس وتمزقاته (تمزقاته، وليس تجنحاته. إذ من الطبيعي أن تتعدد الأجنحة السياسية في مجالس النواب، ولكن أجماعها يكون على حماية استقلال الوطن وتقدم المجتمع). ولكن يبدو أن المؤسسة بتكوينها الحالي ترفض هذه التبعية، وفي نفس الوقت تهبها لـ "الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية" المسيطر عليها من قبل الحركة الوهابية في ليبيا!. وهذا يعني أن الهيئة والحركة تسد مسد القيادة السياسية للمؤسسة العسكرية وأن الأخيرة تقوم مقام الذراع العسكري للأولى.