Atwasat

ركن العامرية.. قيمنا في حقيبة سفر

فدوى بن عامر الخميس 09 مارس 2017, 11:56 صباحا
فدوى بن عامر

تحصّل حمودة على بعثة دراسية لإحدى أكبر جامعات العالم الغربي فأسرعت أم حمودة بإعداد حقيبة السفر له. وضعت الملابس والزميطة والبسيسة والرُبّ ودقيق الشعير وصُرّة كبيرة. أوصته جدته قائلة "لا تلبس البرنيطة يا وليدي يا حمودة بل احمل هذه الصُرّة على رأسك كما عودناك فتحميك من العين والجن"!. ولا غرابة فالحصانة الفكرية ضرورية وهي سر بقائنا في ذيل آخر قوائم العالم في كل شيء كحقوق الإنسان ووضع المرأة وغيرهما.

اللافت أنه رغم رجوع أعداد غفيرة من أبنائنا من رحلات الابتعاث وقد حازوا أعلى الشهادات الأكاديمية، إلا أن معظم من رجع قد رجع بنفس الانغلاق الفكري والثقافي. فطبيعة البنية الذهنية التلقينية التي اكتسبها الفرد من والدته معلمه الأول، وأسرته ثم مجتمعه لا تسمح إلا بهذا. فحمودة مُبرمج على الرفض التام لكل قيم وأفكار دول الابتعاث الغربيّة بحجة الاكتفاء بالقديم المألوف الأسهل على الروح والبدن معًا، الجالب للسعادة التعيسة. بالإضافة يسافر حموده وفي قلبه هاجس يقتله، ألا وهو الخوف من ضياع هويّة هشّة مفتتة كالهباء المنثور، فحمودة في بلاد غربته يُصرّ على فتح الصُرّة كل يوم كما أوصته أمه وجدّته ليطمئن على بطولات الأسلاف الملحمية وأحوال النوادر والخوارق التي أوصلتنا لما نحن فيه الْيَوْم. المفارقة أنه إن رحل شرقًا لبعض الدول فالأمر قد يختلف فيضيف لصُرّته أبعادًا أخرى من التخلف ليعود بصُرّة أكثر جهلًا وتطرفًا.

ولكن أليست هوية حمودة الليبية في ضياع مستمر وفي عقر دارها وذلك لحساب هويات وثقافات وافدة لم تنتبه لها أم حمودة مما يوحي بخلل ما قد صاحب تشكّل هذه الهوية الجريحة منذ البداية!.

لله درّك يا نيهومنا كيف تخلصت من حمودة وتلك الصُرّة وانطلقتَ محلّقًا في سماء الفكر و الإبداع!

وعندما عاد حمودة للوطن، عاد وفي حقيبته كل ما وضعته له أمه، الملابس، بقايا الزميطة والبسيسة والرُبّ ودقيق الشعير. ويالسعادة أم حمودة عندما عانقت ولدها فإذ بالصُرّة بما فيها من الإرث الفكري الثقافي والديني الذي نتحصن به ولا ندري أنه لا يواري إلا عقولنا ثابتة كالجبل على رأسه. ورجع حمودة شاهرًا شهادة أكاديمية أطالت عنقه لأنه اكتسب لقب لزوم اتقانه لبعض المهارات المهنية. أما الخارقة فتتجلى بدخوله سوق العمل، فأداء حمودة الوظيفي على الأرجح لا يختلف كثيراً عن أي حمودة آخر لم يسعفه الحظ بالابتعاث. أما الخارقة الأكبر فتتمثل بعدم وجود فوارق بين أداء حمودة المبتعث لبضعة سنوات وحمودة المهاجر لعقود وحمودة اللامبتعث، فبلادة الأداء واحدة في العموم ويا لثقل الصُرّة.

وهذا بالضبط ما أثاره المفكر السعودي البليهي، فبلده تعاني من نفس الحالة، حمودة هنا وهناك، وقد يكون للأصول النجدية لحمودة الليبي دورًا في هذا التشابه. أشار الكاتب إلى أن الخوف من الغرب لدى المبتعث نتيجة ثقافته التلقينية جعلته يسافر للخارج حاملاً معه كل أسباب التخلف رافضًا مسبقًا أي اتصال فكري مع الفكر الغربي مخافة أن يؤثر في المنظومة القيمية من أفكار وتقاليد وعادات موروثة من قديم الزمان.

وما الحل إن كان هذا هو الحال!؟ ربما كان من الضروري حث حمودة على حتمية التخلص من بعض ما في الصّرة، فرغم توصيات أم حمودة وجدّته إلا أنه يتعين عليه الغوص في المجتمع الجديد بدون إطلاق أحكام مسبقة عن غير خبرة. فالغرب ما استطاع أن ينهض من عصوره المظلمة التي نمر بها نحن الآن إِلَّا بعدما تمكّن من التخلص من صُرّة الجهل التي حملها على رأسه قرونًا طويلة. وعلى حمودة أن يعي أنه عندما تسقط بعض مفاهيمه الموروثة، وستسقط لا محالة، أمام بعض مفاهيم المجتمع المتحضر فيجب أن يدعها تندثر تمامًا لا أن يواريها فتعود لتتحكم برأسه بمجرد رجوعه لمجتمعه. يجب أن يتفطّن حمودة إلى أن الخلل في الاتجاه العام للمجتمع وثقافته المتخلفة المتأصلة فيه من مئات السنين.

ولذا فحمودة بحاجة لتقبّل تغيير فكري ملحمي في عقله لتحريك ركوده، في ذات الوقت هذا لا يعني الانسلاخ من الهوية المهلهلة في أساسها أو انهيار أصل الدين، فإن لم يكن حمودة واثقاً من عقيدته خائفاً من ضياعها لمجرد انفتاحه على الآخر المخالف له فهذه هي الطامة الكبرى.

وذكرني قول ذلك الغريب المتجلبب المجلوب بأيادي ليبية لمنابر مساجدنا المالكية وقنواتنا الليبية، عندما حدثنا وكأنه عالم فلك حتى انفجر العالم ضاحكًا علينا لأن الغريب ضحك علينا، كيف لا ورؤوسنا تدور وتدور من وزن الصُرّة وفكرنا ثابت لا يتغير إلا للأسوأ، ذكرني بقول أديبنا النيهوم "ما دام مجتمعنَـا يسْمح لفقيه أمّي أنْ يحشرَ نفسَه بين "العلماء" ويقول ما يشاء لمنْ يشاء باسْم الله شخصيّـاً.. وما دام الطّفل لا يستطيع أنْ يفعلَ شيئاً تجاه ما يسْمعه من أساطير الفقه سوى أن يطوّع نفسهُ للتّعايش معها في الظلام.. فلا مفرّ من وقوع كارثة.. ولا مفرّ من أنْ يغرقَ مجتمعنَـا في موجة بعد موجة من خرّيجي المدراس الذين تمّ تنويمهم من قبل أنْ يستيقظوا.. وعهد إليهم بحمل مسؤولية الهدم والبناء وهم عزّل من كلّ سلاح.. سوى سيف التعصّب الأعْمى في أيدي ملايين العُميان".

لله درّك يا نيهومنا كيف تخلصت من حمودة وتلك الصُرّة وانطلقتَ محلّقًا في سماء الفكر و الإبداع!.