Atwasat

فزعة: ومعرض برتقال في البرتغال

محمد عقيلة العمامي الإثنين 13 فبراير 2017, 10:23 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لفت انتباهي كيف أن حرفي (القاف) و(الغين) غيّرا تماما معني الكلمتين، أما الفزعة فقد ذكرتني بمقال كتبته عن الدورة التاسعة والثلاثين لمعرض الكتاب بالقاهرة سنة 2008 عنوانه "المؤلّفة قلوبهم" نقلتُ فيه حالة لفتت انتباه ظُرفاء المعرض فكثرت (القفشات) والتعليقات الساخرة بسبب أعداد المُوفدين الليبيين، وتنوع قنوات إيفادهم حتى أن الشاعر الظريف المرحوم محمد الحسيني قال مرحبا بأحد أصدقائنا اليمنيين: "مرحبا بك في معرض الليبيين للكتاب والذي ترعاه هذه السنة جمهورية مصر العربية".

كان الموفدون الليبيون كثرا: منهم من أوفدته أمانة الثقافة، ومنهم من أوفده المجلس الأعلى للثقافة ومركز الدراسات والجامعات ومن ليبيا الغد، وسُئل صديق مشاكس إن كان من جماعة المجلس أو جماعة الثقافة، فأجاب ساخرا: "أنا من جماعة الخير"، ولما لمح أحدهم استطرد مُكملا حديثه "جماعة ليبيا الغد". لم يغب أحد، حتى أنهم كانوا يُسيطرون بالكامل على كراسي المقهى الثقافي طوال اليوم، ولكن التنافس الشديد كان ما بين موفدي أمانة الإعلام وموفدي المجلس الأعلى للثقافة، لدرجة أنهم لا يحضرون مناشط بعضهم البعض.

الابتعاد عن الثقافة هي خطوة حقيقية نحو تكميم الأفواه نحو ديكتاتورية حتى وإن عُولجت ببرتقال (البيلا دونا)

وأذكر أن الصديق عيسى عبد القيوم عندما كان في ذلك الوقت إعلاميا معارضا لنظام القذافي، جاء إلى المعرض وغطى نشاطه بالكامل ولعله لم يغب عن أية ندوة أو محاضرة، وذات يوم جاءني يحمل كالعادة آلة التصوير وقال لي متعجبا: "لقد ذهبت اليوم إلى الأصبوحة الشعرية التي خصصت للشاعر على صدقي عبد القادر ولم يحضر أحد وظل الشاعر ممسكا بوردته الحمراء، ينظر إلي وكأنه يتوعدني ألاّ أغادر القاعة. أخبرني ماذا حدث؟ أجبته: ومن يأتي لأصبوحة شعرية من بعد سهرة فجرية؟ إلاّ إنجليزي مغرم بشعر بلد الطيوب! وجلسنا وتحدثنا وفسر أنه وبعض أصدقائه من المعارضين قرروا الاّ يغيبوا عن المناشط الليبية، وما كان لهم أن يعزلوا أنفسهم عن حضور مثل هذه المناسبات، ولقد قام حينها بتغطية إعلامية لم يقم بمثلها أحد من الموفدين، حتى أن أمين الثقافة آنذاك السيد نوري الحميدي، أشار في مناسبة إلى مجهود عيسى الجبار بتغطية ما لم يقم بمثلها أحد من الموفدين، وأذكر انه سألني هل أنا من موفدي المجلس الثقافي أو من أمانة الثقافة، باعتبار أنهما الأكثر عددا فقلت: "أنا من المؤلفة قلوبهم" وحكيت له نكتة حدثت بالفعل في ليبيا.

عندما نظموا مشروع التعداد السكاني وقف مندوب الإحصاء أمام بيت يجلس أمامه شاب يبدو أنه مسطول، وسأله: "هل أنت من أهل البيت؟" فأجابه الشاب، بعينين ناعستين: "لا.. أنا من المؤلفة قلوبهم".
لقد تذكرت تلك الدورة تحديدا وإن تكرر مثلها كثيرا. فليبيا لم تغب عن معارض الكتاب في أسوأ سنواتها العجاف، خصوصا معرض القاهرة إلاّ في سنوات القطيعة ما بين النظامين، والتي لم تنقطع ما بين المثقفين.

هذا العام غابت ليبيا رسميا على الرغم من وجود ثلاث حكومات، انزعج المثقفون والكتّاب المقيمون في القاهرة ونظموا مشاركة أهلية، تطوعت المندوبية الليبية مشكورة بإضفاء الصبغة الرسمية على المشاركة، وكان حجم هذه المشاركة الثقافية الليبية التطوعية ناجحا للغاية، حتى أنها صُنفت بالترتيب الثاني من بعد حجم مشاركة مصر صاحبة هذا العرس. وكانت التفسيرات والتأويلات التي وصلت حد التنويه أن ليبيا مقبلة على انغلاق كامل على فكر العالم! وبالطبع رجّع البعض هذا الغياب إلى انتشار الفكر الديني. غير أن العارفين يعلمون أن الكتب الدينية في معرض القاهرة هي الأكثر مبيعا، وهناك من يقول: " إن كل فكر ديني في ليبيا لا يريد سوى الكتب التي تحمل أفكاره وغيرها مرفوض"، وبالطبع أشاروا إلى تلك الكتب التي منعت مؤخرا.

ما أريد قوله هو أن الصمت عن مثل هذه الأحداث له نتائج عكسية، بل وتصبح أداة لكل من يريد الهدم؛ ولا أعتقد أننا نحتاج معاول أخرى للهدم. إن غياب ليبيا عن معرض القاهرة للكتاب، أمر مُعيب ومُهين لرؤساء الوزراء الثلاثة، وخصوصا ذلك الذي سيشارك بوفد في معرض البرتقال في البرتغال. فانتبهوا: إن الابتعاد عن الثقافة هي خطوة حقيقية نحو تكميم الأفواه نحو ديكتاتورية حتى وإن عُولجت ببرتقال (البيلا دونا).