Atwasat

إدريس المسماري

سالم العوكلي الأحد 05 فبراير 2017, 12:07 مساء
سالم العوكلي

اليوم 17 فبراير، العام 2006، كان يوما ممطرا شديد البرودة كعادة فبراير، لكن الجديد هو خروج مئات الشباب في مظاهرة صاخبة، سارت في شوارع درنة حتى وصلت إلى المربع الأمني، وهاجم الشباب الغاضب مقر البحث الجنائي ومركز الشرطة ومديرية الأمن، ولم ينج حتى مبني قسم المرور. كنا قبلها نسمع بتسريبات عن خروج مظاهرات احتجاجاً على نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول بجريدة يولاندس بوستن الدنماركية 30 سبتمبر 2005، لكن يبدو أن المظاهرات المبرمجة خرجت عن سيطرة محركيها، وبدأت تستجيب تلقائيا لمكابيت الشباب، وتذهب مباشرة إلى المقرات الأمنية التي كانوا يعتقدون أنها ممثلة للنظام الكاريكاتيري المسيء لليبيا برمتها، وإلا فما علاقة البحث الجنائي أو شرطة المرور بالرسوم المسيئة في كوبنهاجن؟.

قُتل شاب وأصيب البعض وتمت السيطرة على الحالة، لكن الأخبار التي تواترت من بنغازي كانت أكثر دموية، حيث هوجمت القنصلية الإيطالية وبعض المرافق مما استدعي استخدام عنف مضاد حتى لا تخرج المظاهرة المخطط لها على النص، ولقي أكثر من 20 متظاهرا حتفهم، لكن النظام المرتبك منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد بدأ يلعب بالنار. أما السر وراء توجيه المظاهرة إلى القنصلية الإيطالية بالذات، كان من أجل الإيحاء إلى السلطات اٌلإيطالية والرأي العام، بأن الشعب الليبي يتظاهر ضد الصور المسيئة للساعدي القذافي والتي ظهرت في صحف إيطالية. في درنة وبعد أن خرجت المظاهرة على النص، ولعدم وجود أية أهداف غربية واضحة في المدينة ، تم توجيهها إلى مبنى الكنيسة السابق، المشيد العام 1907 والذي كنا قد حولناه إلى بيت درنة الثقافي منذ العام 1997، وتم حرق البيت الثقافي بدرنة بسبب رسم كاريكاتير ظهر في القطب الشمالي من الكرة الأرضية.

15 فبراير العام 2011 كنت ساهرا في بيتي نفسه، حين علا صوت إدريس المسماري في قناة الجزيرة يعلن عن بداية المظاهرات في ليبيا

كنت أسكن وقتها في شقة ضمن عمارة متهالكة شيدها الطليان، العام 1926، تقع في قلب هذا المربع الأمني، وكان بالإمكان مشاهدة الأحداث عن كثب. بعد غروب الشمس بقليل جاءني الكاتبان إدريس المسماري وإدريس بن الطيب قادمين من مصر، يحملان شحنة من نسخ مجلة (عراجين) لصاحبها إدريس المسماري الصادرة في القاهرة، وقد استطاعا تهريبها من المنفذ الشرقي لأنها كانت ممنوعة في ليبيا، كما أحضرا مشروبا دانماركيا لكنني أخبرتهم أن اليوم بالذات 17 فبراير 2006 تم الإعلان عن مقاطعة المنتجات الدنماركية، وضحكنا معا، وتناقشنا في أمور شتى من ضمنها ما حدث في بنغازي ودرنة، وكان المسماري يحمل كعادته حزمة مشاريع ثقافية ذات مغزى سياسي ويعرضها تباعا، وكان العدد من مجلة عراجين حافلا بملفات مهمة عن ليبيا، وبمقالات وبحوث تغوص في القضايا الليبية المفصلية التي أصبحت فيما بعد أهدافا لثورة فبراير.

اليوم 15 فبراير العام 2011 ، كنت ساهرا في بيتي نفسه، حين علا صوت إدريس المسماري في قناة الجزيرة يعلن عن بداية المظاهرات في ليبيا، وعن انتقال ما سمي بالربيع العربي إلى ليبيا من قلب ميدان الشجرة، وبعد دقائق اجتاحه دوي الرصاص وسقط الموبيل الذي كان يتحدث عبره وهو محمول على أكتاف الشباب الذين بدءوا في أنشودة : الشعب يريد إسقاط النظام.

وسهرت مفكرا في بنغازي المشاكسة، وفيما سوف يحمله اليوم القادم، إلا أنه وفي ساعة متأخرة من الليل رن موبيلي وظهر أسم إدريس المسماري، وحين فتحت تناهى صوته وهو يستغيث وأصوات الخبط والطرق العنيف على أبواب البيت، كان ثوار سبتمبر يحاولون اجتياح بيته، وكان يريد مني أن أبلغ من أستطيع إبلاغه، وبدا الخوف على أسرته، وبناته خصوصا، هو الغالب. حاولت التهدئة من روعه، لكن روعي كان في ذروته، وأنا عاجز عن فعل أي شيء لصديق، معرض للقتل هو وأسرته، يستغيث آخر الليل وعلى بعد 300 كم ، وبدأت من فوري في عرض قائمة الأسماء لأبلغ كل من يستطيع أن يقدم شيئا، ومعاودة الاتصال بأم العز الفارسي كل مرة والتي كانت متماسكة بشكل لافت، حتى أخبرتني أن رجالا من جهاز الأمن الخارجي اقتادوه الآن، وكانت قبلها ترفض تسليمه كما أخبرتني لأن صحته لا تحتمل، كما رفضت فكرة مغادرة البيت والذهاب إلى مدينة البيضاء منذ أن تكلم إدريس في قناة الجزيرة.

إدريس بطبيعته الشجاعة يُقْدم على الأمور دون التفكير في العواقب، وهذا ما جعله دائما صاحب مبادرات جريئة، لذلك كان من الطبيعي أن لا تفوته فرصة المبادرة بالثورة الليبية ليقص شريطها الإعلامي، ويوصلها إلى العالم وإلى الغرب والجنوب والشرق الليبي، ولتشتعل في مدن مختلفة اليوم التالي وحتى قبل اليوم المحدد في الفيس بوك 17 فبراير.

إدريس بطبيعته الشجاعة يُقْدم على الأمور دون التفكير في العواقب وهذا ما جعله دائما صاحب مبادرات جريئة

ما بين 17 فبراير 2006 ، و17 فبراير 2011، ومنذ خروجه من السجن مع المثقفين الذين تركوا فراغا مفزعا في الساحة الثقافية، وحتى قبل سجنه، كان إدريس المبادر وصاحب المشاريع التي يستلزم إنجازها حشد أكبر قدر من المثقفين الذين يشاركونه الرؤية، لذلك حرص على علاقات دائمة مع النخبة في مختلف مدن ليبيا ومن كل الأجيال، وحرص على أن يكون نموذجا للمثقف العضوي الذي يطعم الثقافة بالسؤال السياسي، والقادر على قيادة العمل الجماعي. فلم ألتق مرة بإدريس إلا وكان في جعبته مشاريع ثقافية يخطط لها، وهذه الحيوية كانت وراء تفاؤله الدائم، كما كانت وراء مغامراته التي لا يحسب عواقبها حين تكون الغاية ليبيا.

عندما كان رئيسا لمكتب مجلة (لا) ببنغازي قاد عملية إظهار جريمة الأطفال المصابين بالإيدز إلى الضوء، وتعرض بسببها إلى الضرب والاعتقال، ولم يهدأ حتى قرع ناقوس الخطر على غلاف العدد 78 من مجلة (لا) العام 1998م.

سنفتقد كلمته الأثيرة (ماشييييي) التي تعقب كل مقترح يقدمه، وسيترك إدريس فراغا كبيرا فيما يخص ذهنية المبادرة وإنجاز المشاريع وحب المجازفة، وهي طاقة أو قدرة نادرة في وسطنا الثقافي الذي تغلب عليه المشاريع الفردية، والقصور في مراكمة الجهد التي كان يجيدها المسماري، الذي كلما قفل أمامه باب فتح بابا آخر.

لقد كان تعرفي الشخصي على إدريس المسماري ورفاقه المثقفين الخارجين من السجن نقلة مهمة في حياتي الثقافية والإبداعية، حيث سد هذا الجيل الخارج من السجن، دون أن يهادن، الفجوةَ التي انفتحت كهوة سحيقة بين الأجيال، كما استطاع أن يعيد تفعيل مفهوم المثقف المستقل بعد أن كرس النظام السابق إبان ما سماه بالثورة الثقافية نموذج مثقف السلطة التابع.