Atwasat

وفاة صاحب «عراجين» الثقافة الليبية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 29 يناير 2017, 12:16 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

سألتني زوجتي:
- إذا وصلك خبر وفاة شخص عزيز عليك، فكيف تستقبل الخبر؟.
كانت قبل أقل من نصف ساعة اتصلت بأسرتها في ليبيا وأعلموها أن قريبتين لها مريضتان.
قلت لها:
- لست أدري!. هذا يتوقف أيضا على حالتي النفسية التي أتلقى فيها الخبر.
صمتت. أخذ كل منا وضعا مريحا في كرسيه بسيارة الأجرة الذاهبة من مصر إلى ليبيا، حيث كنا ذاهبين حاجتنا لإتمام بعض الإجراءات الإدارية.
انتبهت إلى اختضاض جسدها وانخراطها في نوبة نشيج. سألتها مفجوعا:
- ما ذا حدث؟!. ماذا حدث؟!.
ردت عليَّ:
سأقول لك. لكن، أرجوك. حافظ على هدوء أعصابك.
- ماذا حدث؟؟!
- إدريس المسماري توفيَّ!.
*
لا أريد الآن أن أصف وقع الخبر عليَّ وردة فعلي الانفعالية. ذلك أمر خاص يعنيني وحدي. لكن أريد أن أتحدث عن إدريس المسماري صديقا ورفيق محنة ودرب وقضية. أريد أن أتحدث عن إدريس المسماري مثقفا وطنيا وشخصية عصامية معاندة.. إدريس المسماري إنسانا نبيلا.
*
جمعتني به ظروف تواجدي في بنغازي أثناء دراستي في جامعتها، وهمُّنا المشترك المرتبط بالثقافة والفكر. كنت أعتبر نفسي كاتبا حينها، وكان قد قرأ لي وأعجب بما أكتب. لذا تفضل بالسعي إلى التعرف عليَّ، عندما علم بوجودي في بنغازي، وأيضا إلى كتاب آخرين من بنغازي نفسها، كانوا أصدقائي وكنا كثيرا ما نلتقي في مقهى البريد الواقعة بجانب مكتبة "قورينا" الشهيرة الواقعة في شارع عمر المختار.

توطدت العلاقة بيننا وتعرفت على أصدقاء له منذ الطفولة وعلى أخيه الراحل الأكبر منه رافع الذي كان صديقا له، وخرجنا جماعة أكثر من مرة في رحلات استجمام خلوية. أكون يوم الجمعة مستلقيا على سريري بغرفتي في القسم الداخلي الجامعي، فإذا بالباب يفتح ويطل بقامته الضئيلة ووجهه الودود المنشرح. يجلس على الكرسي بقربي قليلا، ثم يقول لي:
- صبي جهز روحك. فكرت فيك اليوم واريدك تمشي تتغدى معاي!

كان كثير المبادرة بطرح مواضيع للنقاش ويشترك في النقاشات الجادة التي كانت تدور في السجن

يكون غداء دسما، ليس فقط بمكوناته، ولذيذا، ليس فقط بسبب مهارة إعداده، وإنما بما يكتنفه من مودة دافئة ونقاء إنساني حقيقي، وما يدور بيننا ونحن في انتظاره، ونحن نتحلق حوله، وبعد أن ننتهي منه، من أحاديث فيها المباسطة والممازحة والنقاشات المسؤولة في شؤون الأدب والفكر والانشغالات العامة.

كان كريما إلى أبعد حد. حين أكون بصحبته لا أحتاج إلى شيء. ما أحتاجه يحضر دون طلب مني، لا تصريحا ولا تلميحا. ولا أعتقد أن سلوكه هذا مقتصر عليَّ وحدي. كان من النوع الذي يصدق عليه التعبير الشعبي "الي في جيبه مش ليه"!.

رغم تعليمه البسيط جدا كان نهمه إلى الثقافة والتعمق الفكري والتنوع المعرفي بعيدا عن أي شعور بالاكتفاء والشبع. في السجن كان شعلة نشاط وحيوية، مع حرص على إطفاء نار أي خلاف أو نزاع مع الأصدقاء. كان دائما عاملا فعالا في حل ما يمكن أن ينشأ بين رفاق المحنة والقضية من التباسات ومشاكل ولم يكن، أبدا، طرفا في أية مشكلة. تنظيف مناخ الحياة في السجن من أي تلوث يزيد الحياة صعوبة، كان هاجسه.

كان كثير المبادرة بطرح مواضيع للنقاش ويشترك في النقاشات الجادة التي كانت تدور في السجن، ما كان ثنائيا منها وما كان جماعيا. شرهه إلى الثقافة ازداد بعد إخراجنا من السجن. فتعمقت ثقافته واتسعت رؤاه ودخل مجال الكتابة في النقد الأدبي ثم في السرد.

كان إدريس المسماري وراء كثير من الملتقيات الثقافية الهامة على المستوى الوطني، وطموحه اللا محدود جعله يفكر، وفي فترة مبكرة من العشرية الأولى في الألفية الثالثة، في مشروع ثقافي بدا لي شخصيا، حينما طرح عليَّ حينها، شطحا في الخيال: إصدار مجلة خاصة تعنى بالثقافة الليبية! تصور، وفي عهد معمر القذافي المعادي للثقافة أساسا، وخصوصا الليبية.

لكن إدريس المسماري فعلها!
بعد أن رُفض طلبه من قبل الدوائر المعنية في ليبيا، أصدرها، بمعونة أصدقاء آخرين، في هيئة كتاب جماعي غير دوري بمصر، هو كتاب، أو هي مجلة "عراجين، أوراق في الثقافة الليبية"* التي، أظنها، أول مجلة ليبية ثقافية خاصة في التاريخ الليبي المعاصر.

دور إدريس المسماري في إشاعة خبر أحداث 15 فبراير 2011 إعلاميا معروف، حيث خاطر بحياته ومصير أسرته. لقد كان إدريس المسماري مثقفا وطنيا عصاميا معاندا من الذين يصدق عليهم قول الشاعر سعدي يوسف:
«لم يرفعوا راية أو كتابا
ولم يخفضوا راية أو كتابا»
وكذلك قول الشاعر اللبناني محمد العبد الله:
«لا ندخل في موقدة خلسة
لا نخرج من موقدة خلسة»

* قال لي إدريس بأنه حين عرض العدد الأول من المجلة على أحمد إبراهيم منصور في القاهرة، بغية تلمس إمكانية دخولها ليبيا بشكل رسمي، كان محل أول اعتراضات أحمد إبراهيم صفة الليبية! طالبا أن تستبدل بها صفة العربية أو الإنسانية. ولاحقا، خلال بعض "المفاوضات" مع الجهات المعنية للسماح للمجلة بالدخول ظل هذا الطلب قائما.