Atwasat

الذاكرة تاريخ متحرك

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 18 ديسمبر 2016, 09:47 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

الذاكرة مركز محفوظات، أو مكتبة. تحتفظ بأخبار وحكايات وقراءات ومشاهدات، وتختزن معايشات وذكريات، بل ومشاعر وعواطف. تاريخنا الشخصي، برمته، ماثل فيها. ننسى بعض الوقائع والأحداث أحيانا، إلا أنها تَمثُل في وجداننا في لحظة ما وموقف ما. تمر سنوات مديدات على معايشة ما وفي موقف معين تستحضرها ذاكرتنا طازجة فتجيش مشاعرنا وننسر ونضحك، إذا كانت الحالة مبهجة، وتتكدر نفسيتنا ونغتم إلى حدود البكاء، أحيانا، إذا كانت الحالة مُكْئبة. فـ"الواقع هو ذكرى جرت قبل آوانها" مثلما يقول أحد المفكرين. و"الذكرى تكف عن كونها كذلك متى ما كانت بالغة الوضوح. إنها تصبح حاضرا جاريا، لأننا في الوقت الذي نمر فيه بتجربة تستدعي هذه الذكرى، تفرض الخبرة الأصلية لهذه الذكرى جمالها على الخبرة الجديدة" مثلما يقول مفكر آخر.
هذا على صعيد الذاكرة الفردية، أو الخاصة.

وعلى المستوى الجمعي تمثل الذاكرة تاريخا متحركا وثقافة جارية. تاريخ الجماعة ماثل فيها وثقافتها تفعل فعلها على صعيد الوجدان الجمعي في كل لحظة. ورغم ما يسود تاريخ الجماعة، من حيث هو تاريخ شفهي، من مبالغات وخرافات وادعاءات وانحيازات وانتقائية، إلا أن هذا التاريخ لا يختلف جوهريا، في هذا الجانب، عن التاريخ العالِم [المكتوب]. فهو أيضا مليء بالأخطاء غير المقصودة والتزوير والأكاذيب والمبالغات والانتقائية وقلب الحقائق. وحتى في حالة الاستناد إلى الوثائق الرسمية ليس لدينا ما يثبت أن ما هو مسجل في الوثيقة، سواء كانت لوحا حجريا أو أديما من مادة أخرى أو ورقا أو تسجيلا صوتيا أو مرئيا، أن المعلومات والمعطيات الواردة فيها مطابقة لما حدث في الواقع، وليست مدعاة أو مكذوبة أو مصطنعة (لعل أقرب وأسطع مثال في هذا السياق البلاغات العسكرية العربية في ما عرف بـ"بحرب الأيام الستة" مع إسرائيل في يونيو 1967).

وإذن، فما يسمى بالتاريخ الشفهي ليس عديم الأهمية مقارنة بالتاريخ المكتوب، وهذا الأخير ليست له أية ميزة عن الأول من حيث المصداقية. ولا ننسى أن ثمة جماعات بشرية مازالت تعتمد، حتى اللحظة، على الذاكرة في تداول تاريخها وتوريثه ولا ينفصل تاريخها عن بقية مكونات إرثها الثقافي، وعدم اعترافنا بهذا التاريخ هو في حقيقته عدم اعتراف بوجودها أصلا. فـ"التاريخ مشتق من الذاكرة" مثلما يقول فرانسيس بيكون.

في ما يتعلق بالحالة الليبية، نشير إلى أن جزءاً كبيرا من تاريخ المقاومة ضد الاستعمار الإيطالي هو تاريخ شفهي، وأهم وثيقة وثقت لحالة معتقل العقيلة الجماعي كانت وثيقة شفهية هي قصيدة "ما بي مرض غير حبس العقيلة" للشاعر رجب حمد بوحويش المنفي.