Atwasat

الذين جعلوا من سجنهم جامعة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 ديسمبر 2016, 11:17 صباحا
محمد عقيلة العمامي

التفكير قد لا يأتي بحلول صائبة، ولكنه -على الأقل- يمنحنا أملاً بأن الخلاص في المثابرة الصحيحة، والعناد والغباء غالبًا ما ينتج عنهما قرار سيء، نتائجه بالتأكيد مريرة ولكنها ليست بمرارة قبول الأمر الواقع من دون التفكير. قد نتألم من قرارات سيئة سابقة ولكنها مفرحة على نحو ما، فالطبيب يفرح عندما يُخبره المصاب أنه يتألم من حروقه، فذلك يؤكد للطبيب أن التلف لم يصل العصب، والشفاء مسألة وقت. وفي تقديري أن تلفنا لم يصل العصب بعد.

في شهر يونيو 1942 وقف قطار الفرنسيين عند نقطة تسمى الشط الشرقي وهي بحيرة مالحة في عمق الصحراء الجزائرية. نزل منه ثلاثة ضباط من الألمان لتأخذهم شاحنة عبر الصحراء القاحلة إلى مخيم في منطقة تسمى (جريفيل) يحرسه الفرنسيون، وهو بمثابة سجن لأسرى الحرب. كان يضم أكثر من 400 ضابط ألماني أسرهم الفرنسيون. أحد هؤلاء الضباط الألمان ملازم اسمه (كارل هانز هورن) وآخر اسمه (فولف غانغ هوفمان). كان سبقهم في ذلك السجن الممتليء بالحشرات والجراثيم والجوع والحر الشديد ميجور ألماني محنك اسمه (بول بومي) كان قد شارك في الحرب العالمية الأولى وكان يقول لرفاقه: «سوف تنتهي الحرب، عندها تحتاج بلادنا إلى مثقفين في المجالات كافة لإعادة بنائها». وكان قد نظم، في السجن، برنامجًا لتعليم اللغات، ولكنه لم يف بطموحاته. كان يريد أن يؤسس جامعة في ذلك السجن! وكان له ما أراد. من بعد أن وصل مفتش الصليب الأحمر إليهم ووقوفه على همة السجناء وتشجيع السجانين زودهم بشاحنة ممتلئة بالكتب، وانتبه إلى إمكانيات (فولف غانغ هوفمان) الموسيقية، إذ كان يجيد العزف على كمنجة صنعها بنفسه، فبعث لهم بآلات موسيقية متنوعة، وشاحنة كتب ثانية وتأسست جامعة ميدانية تضم أربع كليات.

بقي أن نعرف أنه من بعد الحرب تولى معظم طلبة تلك الجامعة، التي انتصبت وسط صحراء تبعد آلاف الكيلومترات عن وطنهم مناصب كبيرة في ألمانيا فصار (هوفمان) قائد أوركسترا عالميا وغانز هورن مديرا لشركة (IBM) وغيرهم كثر في المجالات كافة. عُززت إمكانياتهم بشهادات تحصلوا عليها من بعد اجتياز امتحانات رسمية من جامعات ألمانيا وبدرجات علمية عالية.

الشيء الملفت للنظر أن إقامة هؤلاء الألمان في الأسر لم تطُل أكثر من أربعة أعوام. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عادوا بهم إلى بلادهم، وصاروا روادًا لأبناء وطنهم، بل للعالم أجمع.

بعدما قرأت ما كتب عن هؤلاء السجناء الألمان، تذكرت سجناءنا في أبوسليم، الذين قضوا فيه أكثر من أربعة عشر سنة.. صحيح أن كثيرين منهم تعلموا لغات أجنبية، وكثيرين أيضًا استفادوا من تعليم وثقافة رفاقهم، ومنهم من توسعت مداركه وقناعاته الأيديولوجية والسياسية. والسجين غالبًا لا يُقاوم مرارة الحبس إلاّ بالالتجاء إلى الله. لقد لجأ كثيرون منهم إلى حفظ القرآن. منهم من أصاب فهمه ومنهم من فهمه بالمقلوب وكثيرون منهم انساقوا وراء متحدثين جيدين منهم العفوي ومنهم (المتأسلم المؤدلج) كالذي أعلن: «أن فترة السجن، كانت بالنسبة لنا خصبة، فلقد مكنتنا من تجنيد الكثير من الشباب». لم يكونوا جميعًا ينتمون إلى جماعة واحدة ولكنهم كانوا مجموعات متعددة: إسلامية ويسارية قومية بعثية. ولم نسمع عن نفع قدموه لبلادهم؛ بالتأكيد كانت الرقابة على ما يقرؤون صارمة ويجوز أن الكتب ممنوعة في الأساس، ولكن مثلما نعلم جميعًا أن معالجة الخطأ بخطأ مصيبة لا تطال أصحاب الخطأ فقط بل تطال مجتمعهم كله.
المانيا أعادت بناء دولتها التي دمرتها حروب هتلر في وقت قياسي، بل ما إن مرت عقود قليلة حتى صارت المانيا في مقدمة دول العالم، وكذلك فرنسا التي استعمرها النازيون ثم أصبحت واحدة من أهم دول المحور التي سهلت اندحار الألمان، لعل عدم قهرها للأسرى الألمان بإنسانية وتمكينهم من الاستفادة من إمكانياتهم هو الذي جعل أقسى السجانين في سجن (جريفيل) في صحراء الجزائر أن يعتلي مسرح مدينة (مانهيم) في ألمانيا، حيث كان من بين الحضور أعداد كبيرة من مديري شركات وأطباء أسنان وكتّاب ومدرسين ومحافظين وقضاة جميعهم تخرجوا من جامعة سجن(جريفيل). لقد اعتلى هذا السجان المسرح مصافحًا ومهنئًا (هوفمان) الذي وضع ألحان قطعتي أوبرا وعددًا من قطع موسيقية صارت شائعة مشهورة في أوروبا، بل العالم كافة؛ لقد احتضن السجان (هوفمان) وقال له: «حقًا أن الموسيقى عالمية، وأنت، وزملاؤك، جعلتموني جزءًا من نجاحكم فصرت جزءًا من هذا العالم.. فشكرا لكم».

كتبت لكم هذه الحقيقة التاريخية لتتذكروا سجناء سرقوا بنك بلادهم عيني عينك ويتشدقون بالوطنية وخوف الله.